طوائف بلا طائفية

منذ ٧ ساعات ٦

نُشرت مقالة قيّمة في ملحق سورية الجديدة" بعنوان "نعمة الطوائف ونقمة الطائفية"، طرح فيها كاتبها محمد خالد شاكر خطاباً مُعتدلاً سعى إلى تقديم فهم جديد لتعقيد البُنية الاجتماعية السورية من دون شيطنة التعددية. وعلى الأهمية العميقة لهذه المقاربة المنطلقة من همّ سوري عام، وشعور عالٍ بالمسؤولية، إلا أنها تنبهنا إلى ضرورة الحذر من الوقوع في فخّ التمييز غير المرئي بين وجود الطوائف حقيقة تاريخية اجتماعية واستغلالها السياسي الممنهج أداة للضبط والتفكيك. وأرغب بالذهاب إلى أبعد حد مُمكن للدفاع ليس عن الطائفية، بل عن الحق في الهويّة، وحق عدم اختزال الهويّات وتحويلها إلى أداة خوف وقهر وقسر وضبط أو اصطفاف، كما فعلت "الدولة الأمنية العميقة" التي حوّلت جميع الهويّات الفرعية السورية إلى هويّات طائفيّة مُتناحرة ومتصارعة.
ليست الطوائف الدينية والمذهبية والإثنية شراً بحدّ ذاتها، إنما هي من أشكال الاجتماع التاريخي، ذات تجارب وعلاقات تضامن عريقة، سواء بشكل أحادي بعضها مع بعض، أو مع غيرها، وغالباً ما شكّلت ملاذاً وملجأً اجتماعياً في مواجهة التهميش والاستبداد.
لم يكن المجتمع السوري تاريخياً سوى مكونات متعددة من الكرد والعرب والآشوريين السريان، سنّة وعلويين ومسيحيين وإسماعيليين ودورزاً وإيزيديين، هذه هي حقيقة المجتمع السوري، وهو تنوّع لا ينبغي التعامل معه على قاعدة "الشُبهات والمحظورات" أو مشكلة واجبة الحل. تلك المكونات والتسميات هي مدماك بناء العقد الاجتماعي، والحامل الجمعي لمفهوم المواطنة الحقوقية المتساوية، التعامل معهم كما هم وليس الطلب منهم التخلي عن هويّاتهم مقابل الاندماج. فإنكار الهويّات الفرعية أو تذويبها قسراً باسم "الوطنية والمواطنة" يؤدي إلى نقيضه.
الطوائف حق إنساني واجتماعي، والطائفية تُعارضه.  لا سيما أن الشعب لم ينتجها، بل فُرضت عليه من السلطة، بغرض تفكيك المجتمع وإعادة تركيبه على أسس الخوف والتبعية ونبذ الحقوق السياسية والطبيعية. وللمفكر ميشيل فوكو مقولة تُلخص ذلك قائلاً "السلطة لا تقول الحقيقة، بل تنتجها".
الاعتقاد أن تفكيك النظام سيؤدي آلياً إلى نهاية الطائفية يتجاهل أنها ورمٌ انتشر في البُنية الصُلبة للمؤسسات الأمنية والثقافية والاقتصادية والتعليمية، ومكمن الخطورة على سورية هي في سقوط النظام وبقاء الطائفية.
لا بديل عن عقدٍ اجتماعي ينطلق من الاعتراف وضمان الحقوق. ليس في "إلغاء الهويّات" باسم الوطنية، وليس في تحويل التعدد إلى نظام محاصصة كما في لبنان، بل صياغة عقد يقوم على الشراكة ومبدأ الاعتراف المتبادل والضمانات القانونية واللامركزية العادلة، وكتّابة دستور مدني يعترف بالتعددية ويكفل حمايتها، وفق نظام حكم لامركزي يتيح لكل مكوّن إدارة شؤونه الثقافية والخدمية ضمن وحدة الدولة، وتمثيل سياسي حقيقي يستند إلى الكفاءة والشراكة والبرامج، وليس المحاصصة العددية أو الطائفية. نحن السوريون بحاجة لقوانين تمنع التمييز وتضمن المساواة في الفرص والموارد. وقبل كل هذه البنود، لنتفق أن العقد الاجتماعي ليس تسوية مؤقتة، بل التزام طويل الأمد. كما قال جون راولز "العقد العادل لا يعني فقط التوازن بين الأطراف، بل تأسيس علاقة تستند إلى الاحترام المتبادل والضمان المتكافئ للكرامة".
في سورية الجديدة، لا نفع لشعارات "الوحدة الوطنية" إذا لم تُترجم إلى سياسات تعترف بالهويّات وتُحررها من التوظيف السلطوي. لا مواطنة مع إجبار المواطن على نسيان هويّـته الفرعية، وكما يقول إدوارد سعيد "الهويّة ليست سرداً واحداً، بل فسيفساء من الانتماءات، لا تكتمل إلا إذا سُمح لها أن تُروى بحرية".

قراءة المقال بالكامل