صارت "الميركافا" العالقة على الرصيف، مزاراً للكبار، وفسحة ونُزهة للأطفال. إنّها صورة مُوحية لا يُمكنك البحث عنها، بل العثور عليها فقط. ليس في رفح - المدينة العظيمة المصدومة - وحدها، بل في جميع ساحات الحرب، بالقطاع.
لقد أعادتني الصورة التي التُقطت مؤخّراً، إلى الشهور الأُولى بعد حرب حزيران/ يونيو 1967، حيث كانت ناقلة جُند مصرية عالقة في رمال الأحراش بخانيونس، وكانت أيضاً ملعباً لي ولأتراب ذلك الزمان: نَعتليها، ونتلمَّس جرمها، مستغربين ومندهشين من سُمك الفولاذ المُصفَّح، وسَماكَة الزجاج الأمامي.
لم يطُل بنا وقتُ اللّعب آنذاك، حتى جاءت آلة عسكرية للعدوّ وسحبتها من السوافي، لصهرها من جديد.
الأطلال عادة تمتلك ألسنةً لا يمتلكها برنامج المُحادثة الآليّة الغبي
بين الصُّورَتين، نحو ستّة عقود، جرَت فيها طوفانات عديدة تحت الجسر. إنّما كلُّ شيء مُرتبط بكلّ شيء، وها أنا أتذكّر، وأفرح، فالعالق هذه المرّة من سلاحهم، أعطبته المقاومة وفرَّ من تبقّى من راكبيه، مثلما أُعطِبَت قرابة ألفين من الدبّابات وناقلات الجُند.
أن تنظُر فإذا بأطفال فرحين، مُبتسمين، يلوّحون بأيديهم، فوق دبّابة (هي "فخر" صناعة العدوّ)، لهُوَ أمرٌ جِدُّ حسنٌ في العام 2025، رغم قسوة المشهد.
لقد كان هؤلاء الأطفال السُّعداء بمثابة استعارةٍ لتوضيح أنّ فلسطين قد تمّ إطلاق سراحها بأيدي مقاوميها، ولن يستطيع كاملُ الجبروت الأطلسي ترويضهم من بَعد.
صورة تبعث على الأمل، لا سيّما وأنّ اللاعبين فوق هذا الحطام، هُم على الأرجح مقاتلو المستقبل.
إنه مشهد ينضح بكلّ أشواقنا الخبيئة، خامٌ وحميميٌّ في نفس الوقت. وعلى الرغم من صرخات الفرح التي يُطلقها الأطفال، إلا أنّ القهر يُصمّ القلوب، حين ترى أكوام الأنقاض المهولة خلف أجسادهم الصغيرة، شاهدةً على معركة تمّ الفوز بها في حرب لا تنتهي.
أطفال يتراكمون فوق "ميركافا" محترقة، لهم أفضل دهون لقلبك المُحترق.
■ ■ ■
البرجوازيّون البِيض من مثقّفي أوروبا وأميركا وملحقهما الصهيوني المُستجَدّ، يزعمون أنّ المُدن لا تعيش أبداً في الماضي؛ بل فقط بعض البشر هُم الذين يعيشون هناك. فقط بعض البشر وليس كلّهم، وأين الآثار وحوليّات التاريخ، وكلٌّ عِيانيٌّ ومكتوب؟ هم يقولون ذلك، كيما ينسى الناس تاريخهم الأسود.
ولَكَمْ طمسوا من معالم مادّية شاهدة على التاريخ، من قرىً ومدنٍ كانت عامرة زاهرة في وقت أهلها، كما فعلوا في الأميركتين وأستراليا وأفريقيا وآسيا، وكما فعلوا بالخصوص، مؤخّراً في بلادنا: فلسطين.
لا، المُدن تعيش في الماضي مثل كلِّ ساكنيها، وكلُّ مدينة تخلو منه، كلُّ كيان أو دولة، لا يعوّّل عليها الشعراءُ وعلماء الآثار ومؤرّخو الحوليّات وحتى الروائيّون.
ولهذا السبب، يُوصى بشدّة بزيارة كلّ أثر باقٍ، كلّ ورقة مكتوبة من ذلك الزمن، كلّ شجرة مُعمِّرة باقية، فكلّها شواهد آسِية على تلك الأُمم التي أُعدِمَت بمئات الملايين، كي لا ينسى أهل هذا الراهن الجنوبي، حقيقة أنّه إذا تعلّمنا القليل من التاريخ فلن نكون سيّئين بالمُطلق، وحقيقة أنّ الحجارة تتكلّم، إنّ الطَّلل ثاوياً كان أم بارزاً، كلُّ طللٍ وأيّ طلَلٍ، يبوح بما لا يبوح به الذكاء الاصطناعي، فالأطلال عادةً تمتلك ألسنةً لا يمتلكها برنامج المُحادثة الآليّة الغبي.
* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا
