عقد من الحرب في اليمن

منذ ٣ أيام ١٠

ضحية للتنافس السعودي والإيراني أم تهديد أمني؟ بعد مرور عشر سنوات من الحرب، لا تزال النظرة إلى اليمن غامضة ومتناقضة. في أغلب الأحيان، يتم تجاهل الصراع ببساطة. تم لجم هذا البلد لفترة طويلة، من خلال الحرب على الإرهاب، ثم، منذ عام 2015، باعتباره مسرحاً لكارثة إنسانية رهيبة. ومنذ ثمانية عشر شهراً، أدت العمليات المسلحة التي يشنها الحوثيون في البحر الأحمر وحتى على إسرائيل إلى تغيير نظرة الناس إلى هذه المنطقة وهذا المجتمع.

قدّم الفيلم الوثائقي "غضب الحوثيين" في عام 2024 مشهداً مذهلاً، وبيَّن علاقة اليمنيين المعقّدة مع العولمة. وقد واكب المخرج شارل أمبتاز مؤثريْن اثنين من اليمن، مقرَّبين من السلطات الحوثية، من شوارع صنعاء إلى زيارة السفينة "غالاكسي ليدر"، التي سيطر عليها الحوثيون في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 تضامناً مع الفلسطينيين، وغيّروا وجهتها إلى ميناء الحديدة الذي يسيطرون عليه. [كانت سفينة الشحن هذه التي ترفع علم جزر البهاماس، التي استأجرتها شركة يابانية لنقل السيارات، مملوكة لشركة بريطانية يملكها رجل أعمال إسرائيلي. وتم إطلاق سراح طاقمها في 6 فبراير/شباط 2024]

سرعان ما أصبحت السفينة التجارية مزاراً سياحياً. وصوّر المؤثران نفسيْهما على متنها. على سطح السفينة، علّق أحد الشابين قائلاً: "هذا القارب ضخم فعلاً. من المؤكد أنه يمثل خسارة كبيرة لإسرائيل". تعكس هذه العبارات تناقضاً بين قراءة المؤثر الشاب للوضع، والواقع الاقتصادي للتجارة العالمية، فـ"غالاكسي ليدر" ليست إلا سفينة واحدة من بين العديد من السفن الأخرى، ضمن أسطول تجاري تابع لرجال أعمال قريبين من المصالح الإسرائيلية. هذا المشهد أعمق بكثير من مجرد معلم سياحي يهدف إلى الاحتفال بانتصار النظام الحوثي على الحكومة المركزية اليمنية والتجارة العالمية؛ بل إنه يسلط الضوء على العزلة المأساوية التي يعيشها اليمن على الساحة الدولية، وكذلك على فعالية الدعاية الحوثية المتعلقة بعملياتها تضامناً مع سكان غزة.

الحوثيون مهيمنون على المجال الوطني... منسيون في المشهد الدولي

في 25 مارس/آذار 2015، أدى إطلاق عملية "عاصفة الحزم" من قِبل السعوديين، الذين تولوا قيادة تحالف عربي لدعم النظام اليمني آنذاك، إلى تحويل اليمن، في نظر وسائل الإعلام القليلة المهتمة، إلى نوع من ضحية جيرانها الأكثر ثراء في الخليج والمتحالفين مع القوى الغربية. وسبّب استمرار الحرب وقدرة الحوثيين على إعادة التوازن في المواجهة العسكرية تدريجياً، إعادة النظر في القراءة المبسّطة التي تركّز على البعد الإقليمي للصراع. وترك عقد من المواجهات اليمن والأطراف المتنازعة في موقف متناقض على مستوى العلاقات الدولية.

يحافظ الحوثيون على سيطرتهم على ثلث الأراضي التي تضم غالبية السكان، بما في ذلك صنعاء

في الواقع، ساهم تدخّل السعوديين وحلفائهم للقضاء على الحوثيين، الذين سيطروا على صنعاء في سبتمبر/أيلول 2014، أولاً في الحد من تقدّم المتمردين، وتحرير عدن والأقاليم المجاورة لمضيق باب المندب، مما خفف بعض الضغط على طريق البحر الأحمر، الذي يمر عبره ما يقرب من 20% من التجارة البحرية العالمية. لكن نجاحهم كان محدوداً. فبعد 25 ألف غارة جوية وحصار بحري وما يقارب 400 ألف وفاة (مباشرة أو غير مباشرة إثر تفشي المجاعة والأوبئة كالكوليرا) بحسب تقديرات الأمم المتحدة، لا يزال التحالف العربي متعثراً وهو حالياً في حالة تراجع. وتواجه الحكومة اليمنية الموالية للتحالف اضطرابات نظراً للانقسامات مع الانفصاليين في جنوب البلاد، بينما يحافظ الحوثيون على سيطرتهم على ثلث الأراضي التي تضم غالبية السكان، بما في ذلك صنعاء. فقد تمكنوا من فرض أنفسهم كونهم القوة السياسية والعسكرية الوحيدة في المشهد الوطني، بالتوازي مع تطوير إمكانية إحداث ضرر لا شك فيه في البحر الأحمر وباقي المنطقة منذ خريف 2023.

وهنا يكمن تناقض، أو حتى مفارقة، الحرب في اليمن. فعلى الرغم من واجهته البحرية، التي تمتد لأكثر من ألفي كيلومتر على البحر الأحمر وخليج عدن، وعلى الرغم من وضع إنساني كارثي وتأثير محسوس للصراع على التجارة الدولية والأمن الإقليمي، يبقى اليمن وكأنه منسي. إن رغبة السعوديين في الانسحاب العسكري منذ عام 2022 وكذلك انخفاض المساعدات الدولية، عززا تفاقم الصراع، مع ترك الحوثيين في موقع قوة. ويقود هؤلاء البلاد نحو الانعزال ويطورون أيديولوجية محافظة تتماشى أكثر فأكثر مع إيران، عكس تطلعات العديد من اليمنيين وعكس إدماج بلد موقعه مميز للغاية في التبادلات وتدفقات السلع والأشخاص. وخلال صيف 2024، أكدت اعتقالات العاملين في المجال الإنساني وموظفي وكالات الأمم المتحدة رغبة الحوثيين في الانعزال عن العالم، متظاهرين بالاعتقاد بأن بلدهم يمكنه العيش في الاكتفاء الذاتي، كما كان الحال في بداية القرن العشرين.

البحر الأحمر... نقطة عبور استراتيجية ورافعة سياسية

في فبراير/شباط 2025، اتخذ الرئيس الأميركي دونالد ترامب قراره بتصنيف الحوثيين منظمة إرهابية رغم أنف الجهات الإنسانية وحتى المراقبين والجهات السياسية اليمنية، التي أكدت أن الحركة المتمردة تتغذى على صورتها منبوذةً على المستوى السياسي.
ومنذ ثمانية عشر شهراً، لم يؤد تواتر القصف الإسرائيلي ثم الأميركي والبريطاني، بعد مرحلة طويلة من التدخّل السعودي-الإماراتي، سوى إلى تغيير ضئيل في التوازن العسكري. فعلى الميدان، يظل المناهضون المنقسمون للحوثيين في وضع دفاعي. بالإضافة إلى ذلك، كانت لهذا القصف تكلفة أساسية على المدنيين، مما أثّر على الاقتصاد ووصول المساعدات، ومنع على سبيل المثال مطار صنعاء من العمل بشكل صحيح.

لم يؤد تواتر القصف الإسرائيلي ثم الأميركي والبريطاني، بعد مرحلة طويلة من التدخّل السعودي-الإماراتي، سوى إلى تغيير ضئيل في التوازن العسكري

تخفي خطابات المتمردين الحوثيين حول الاكتفاء الذاتي مفارقة أخرى: فالقاعدة الإقليمية للحوثيين -الذين ينحدر قادتهم من الجبال العالية في الداخل- ليست ممكنة في الواقع إلا لأنها ترتبط بالعولمة. أصبحت الواجهة البحرية للبحر الأحمر بالنسبة لهم مساحة استراتيجية للسيادة والشرعية يجب غزوها والدفاع عنها. في العام 2010، وبعد السنوات الست لحرب صعدة (2004-2010)، نجح المتمردون الحوثيون المدعومون من إيران في الاستيلاء على أراضٍ في ثلاث محافظات مختلفة: صعدة وحجة (التي توفر الوصول إلى البحر الأحمر) والجوف (الغنية بالموارد النفطية)، بينما كان الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح يزعم لمن يريد سماعه أن المتمردين يتقهقرون في الميدان. وخلال هذه المواجهات المتكررة، أصبح الاستيلاء على ميناء ميدي في حجة، الواقع على بعد عشرة كيلومترات جنوب الحدود السعودية، هدفاً استراتيجياً رئيسياً. في الواقع، وفّر هذا الميناء إمكانية تلقي الأسلحة والدعم اللوجستي من إيران. [انطلقت المساعدات الإيرانية من موانئ على الساحل الصومالي (مثل ميناء بربرة) وحتى من ميناء جيبوتي حيث تم تحويل وجهة شحنات نترات الأمونيوم على مدى العقد الماضي]

بعد الثورة ورحيل صالح عن السلطة في عام 2012، شارك الحوثيون في المرحلة الانتقالية (2012-2014) لكنهم ركزوا مطالبهم حول الحفاظ على سيطرتهم على الأراضي التي احتلوها، وخصوصاً الوصول إلى البحر. وفي عام 2014، عندما حرمهم التقسيم الجديد الذي  تبناه مؤتمر الحوار الوطني من الواجهة البحرية، استولى الحوثيون على العاصمة.

منذ بداية الحرب، أصبحت الواجهة البحرية قضية استراتيجية مركزية للمتمردين. فسيطروا على ميناء الحديدة وكذلك على السهل الساحلي لتهامة المطل على البحر الأحمر، ولم يتمكنوا مع ذلك من الحفاظ على وجودهم في عدن. على الرغم من فقدانهم لبعض المدن الساحلية، خصوصاً المخا جنوب تهامة، حيث حطت القوات الإماراتية في عام 2018، فإن احتمال تفاقم الأزمة الإنسانية التي ستنجم عن فقدان الحديدة (وبالتالي كسر خط الإمداد للمساعدات الدولية إلى الأراضي الحوثية) شجع محادثات السلام. وأقر اتفاق استوكهولم فعلياً سيطرة الحوثيين على الحديدة، مما سهّل، رغم الحصار المعلن، الإمداد بالمعدات الإيرانية واستغلالهم للمساعدات الإنسانية.

دعم فلسطين... "قضية وطنية" في اليمن ذات أبعاد دولية

بدأ الحوثيون مفاوضات أخرى في الرياض في عام 2022 بعد الحفاظ على موقع قوة، في حين ظلت الجبهة العسكرية مجمدة. وبعد أن استجابت المملكة العربية السعودية لمعظم مطالبهم، بدا أنهم على وشك توقيع اتفاق قبل أن يطوروا استراتيجية جديدة في البحر الأحمر، باستيلائهم على سفينة "غالاكسي ليدر" رداً على المذابح التي وقعت في قطاع غزة في خريف 2023. منذ ذلك الحين، أعلنت السلطات الحوثية أن الدفاع عن فلسطين "قضية وطنية". ومنذ ذلك الحين، تمت مهاجمة أكثر من مائة سفينة مرتبطة بإسرائيل أو الغرب في البحر الأحمر. وفي 12 مارس/آذار الحالي، في مواجهة حصار إسرائيل لدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة، أعلن زعيم الحوثيين عبد الملك الحوثي استئناف الهجمات بعد توقف قصير.

هجمات الحوثيين في البحر وتجاه إسرائيل تبدو في المقام الأول خدمة لطموحاتهم السياسية

على الرغم من أنه لا ينبغي التقليل من دعم الحوثيين للقضية الفلسطينية، إلا أن هجماتهم في البحر وتجاه إسرائيل تبدو في المقام الأول خدمة لطموحاتهم السياسية، على الصعيدين المحلي والدولي. وبعد عقد من الحرب الأهلية، تتلخص حصيلة الحكم الحوثي في إقامة نظام استثنائي وحشي واستبدادي، مبرر بجهود الحرب الشاملة. من جهة أخرى يتفاقم الفقر -الذي تم احتواؤه فقط بفضل المساعدات الإنسانية الدولية- وقد تكون لأزمة تمويل برامج الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) عواقب وخيمة على المدنيين.

في هذا السياق، يوفر الدفاع عن فلسطين للإدارة الحوثية فترة راحة استراتيجية، مما يسمح لها بتعزيز شرعيتها عند السكان اليمنيين الخاضعين لسيطرتها. في حين أن التظاهرات محظورة منذ عام 2014، ينظم النظام بانتظام مسيرات شعبية كبيرة في صنعاء وفي جميع المدن الخاضعة لسلطته، ويتم بعد ذلك استغلال هذه التظاهرات الداعمة للشعب الفلسطيني من قبل الدعاية الحوثية لتأكيد الوحدة الوطنية لليمن وراء أولئك الذين يقدمون أنفسهم أنهم ذراع مسلحة لفلسطين المهملة من الدول الإسلامية. في سياق الهدنة بين "حماس" وإسرائيل في يناير/كانون الثاني 2025، أوقف القادة الحوثيون هجماتهم، قبل استئناف حمل السلاح بعد أقل من شهرين، عندما أمر دونالد ترامب، منتصف مارس، بقصف مكثف على اليمن، فاتحاً مرحلة جديدة في التدخّل العسكري الأميركي، وتوعد الحوثيين -ومن ورائهم إيران- بـ"جحيم لم يسبق له مثيل". يذكّرنا هذا التسلسل كيف أن اليمن المنسي من العالم، لا يزال تحدياً في العلاقات الدولية.

ينشر بالتزامن من أوريان 21
https://orientxxi.info/ar

قراءة المقال بالكامل