يُركّز المخرج الإيراني الدنماركي علي عباسي، في فيلمه الطويل الرابع "المتدرّب" (سيناريو الصحافي الأميركي غابرييل شيرمان)، على مرحلة فارقة من حياة دونالد ترامب (سباستيان ستان)، تزامنت مع تعرّفه على مُلهمه روي كُوِن (جيريمي سترونغ) عام 1973، وبداية رحلة صعوده في عالم الأعمال، ثم الإعلام، فالسياسة.
تتمثّل جاذبية "المتدرّب"، من ناحية الموضوع، في رهانه الطموح، والحارق براهنيّته، على تقديم وسيلة مثلى لفهم ـ بأثر رجعي ـ الأقوال والسلوكات غريبة الأطوار، الصادرة عن الرجل الأكثر نفوذاً في العالم حالياً، عبر تتبّع خطوات تدرّبه على يدي مُحامٍ مُثير للجدل بأسلوبه غير الأخلاقي، المعتمد على ثلاث قواعد، يُمكن لَمْس تجلّياتها اليوم في قرارات ترامب وخطاباته: "هاجم دائماً. لا تعترف أبداً بالخطأ. ادّع النصر دائماً حتى لو هُزمت".
يتتبّع عباسي كلّ ذلك بإيقاع ديناميكي، وشكلٍ يمزج المادة المُلتقطة بصُوَر أرشيف تسعفه لوضع المُشاهِد في مناخ المرحلة وتقلّباتها السياسية والاجتماعية؛ إلى الاستعانة بالسمات الجمالية لفترة القصة: غبش في الصورة، كاميرا مُهتزّة قليلاً، حركات الزوم الفجائية اقتراباً وابتعاداً، بغية إضفاء مصداقية على الشكل. ظلّ الأداء المُبهر للممثّلين الرئيسيين ستان وسترونغ أهم دعائم الفيلم، إذْ نجحا في بلورة تطوّر الشخصيتين وفق قوس درامي شاسع، يتفوّق في نهايته التلميذ على المعلّم، وتنقلب نبرة الفيلم وفق ضربة مُعلّم لعباسي من مفاتيح "فيلم الصحبة" إلى أجواء تلامس "القتل بالتسلسل" (تُستَعمل كلمة "قاتل" في أحد المَشاهد كمرادف لـ"ناجح")، لا يتردّد ترامب وفقها في استخدام القواعد الثلاث لكُوِن لاقتراف اغتيالات معنوية، ليس ضد منافسيه كعُمدة نيويورك فحسب، بل ضد أقربائه (والده وأخيه وزوجته)، أو أكثر أصدقائه فضلاً عليه، روي كُوِن.
رغم نيل "المتدرّب" إشادة نقدية بعد مشاركته في المسابقة الرسمية للدورة الـ77 (14 ـ 25 مايو/أيار 2024) لمهرجان "كانّ"، لم يحصل على توزيع مثالي بسبب طرحه الجريء وطبيعته المستقلّة (موازنة لا تتجاوز 16 مليون دولار أميركي)، ما أثّر سلباً على إيراداته في الصالات، لكنّه رُشِّح لجوائز مهمّة عدّة.
شارك علي عباسي في لجنة تحكيم الدورة الـ21 (29 نوفمبر/تشرين الثاني ـ 7 ديسمبر/كانون الأول 2024) لـ"المهرجان الدولي للفيلم بمراكش"، فكان لقاء معه، أجاب فيه بصراحة ورحابة صدر عن أسئلة بشأن جوانب موضوعية وشكلية للـ"المتدرّب"، وفلسفته في إدارة الممثلين، ورؤيته لقطاع توزيع الأفلام المستقلّة بالولايات المتحدة، وتصوّره لمشروع فيلمه المقبل.
(*) في مؤتمر صحافي (مهرجان مراكش الـ21 ـ المحرّر)، أشاد شون بن بفيلمك، وبأداء سباستيان ستان وجيريمي سترونغ، مُشدّداً على أنّ انتخاب دونالد ترامب خطر حقيقي على العالم. كيف تشعر حيال هذا، وردّة الفعل على إطلاق "المتدرّب"؟
كان هناك صمت غريب إزاء الفيلم. شعرت بأنّنا حُجبنا قليلاً. لا أعتقد أنّ الأمر يتعلق بمؤامرة أو حركة منسّقة بالضرورة. هذا عفويّ صادر عن كثيرين ممّن لا يرغبون في السّماع عن ترامب، أو رؤيته، أو التحدّث عنه. الأمر يُشبه انفصالك عن شريكتك للتوّ، ثم أعرض عليك فيلماً عن الطلاق. على الأرجح، لن ترغب في مشاهدته.
طُرحت عليّ تنويعات عدّة من هذا السؤال. بعد السادس من يناير/كانون الثاني، سألني الناس: "كيف ستصنع فيلماً عنه الآن؟". عندما كنت أستعدّ لإطلاقه، كان السؤال: "ماذا ستفعل إذا أطلق الفيلم قبل الانتخابات؟". وعندما أطلق، صار السؤال: "هل ترغبون في التأثير على الانتخابات؟". بعد فوز ترامب، بدأوا يسألون: "ماذا ستفعل الآن؟".
أعتقد أنّ الغبار لم يستقرّ بعد. ربما استقر مع نتيجة الانتخابات الأميركية، لكنّه لم يستقرّ بالنسبة إلى الإرث السياسي لترامب، وعلاقته بـ"المتدرّب". لكنْ، لا يُخفى على أحد أنّي لا أطيقه. لا أحمل أيّ كراهية تجاه الإنسان، أقول فقط إنّه مسؤول سيئ جداً، ولم أكن لآتمنه على إدارته دكّاناً. أعتقد أنّه محظوظ للغاية، لأنّ كل ما يلمسه يتحوّل إلى هراء، لكنّه لا يزال يحظى بفرصة أخرى. أتمنّى أنّ أحصل على هذا النوع من الحظّ في حياتي.
(*) أتفهم شعورك بالإحباط باقتصار ردات الفعل أحياناً على إشادة الممثلين بزملائهم. لكنْ، اليوم، أنت مُرشّح لجائزة أفضل مخرج في جوائز "روح الاستقلالية"، وسباستيان ستان مُرشّح لأفضل ممثل، إضافة إلى ترشيح في فئة أفضل مونتاج (أوليفييه بوغي كوتّي وأوليفيا نِرغاد ـ هولم).
هذه لفتةٌ مُشجعة جداً. كنت أقول لفريقي "لا أعرف ما الفائدة من الحملة الترويجية للفيلم"، لأنّي شعرت بخيبة أمل كبيرة، ليس لاعتقادي أنّه رائع جداً، ويجب ترشيحه لمزيد من الجوائز. لكنّي أحسست كأنْ لا أحد يرغب في الحديث عنه. المشكلة، وهذا مُتعلق بسؤالك، أنّي لم أحظَ بفرصة للحديث عن "المتدرّب" كفيلم، وظلّ التحدّث عن كل ما له علاقة بترامب، بينما أؤدّي دور محلّل سياسي زائف (يضحك). لم يسألني أحد عن مونتاج الفيلم مثلاً.
(*) سؤالي المقبل بالضبط عن أسلوبك في الإخراج. في "عنكبوت مُقدّس"، انتقلت من نوع "القاتل المتسلسل" في القسم الأول إلى فيلم "إثارة سياسية". في "المتدرّب"، قمت بالشيء نفسه لكنْ بشكل مقلوب، عبر التحوّل من "فيلم صحبة" إلى نوع من مزاج أفلام "القاتل المتسلسل". كيف تستخدم هذه التحديدات النوعية في هيكلة أعمالك؟
هناك فيلمان عظيمان استخدما الهيكل نفسه، أحدهما "ليالي الرقص (Boogie Nights)" لبول توماس أندرسون، المنطوي على ما يشبه نسق V المقلوب: النصف الأول سعيد ومُمتع ككوميديا، ثم تنقلب الأمور إلى شيء معاكس. و"باري ليندون" لستانلي كوبريك، لاحتوائه أيضاً على هذا النسق.
بشكل جوهري، يُمكن تخيّل أنّ مسار ترامب في الفيلم مُشابه لريدموند باري: يتسلّق السُلّم من دون أنْ يعرف إلى أين يذهب، يصل إلى القمة، ثم ينزل السُلّم نفسه لكنْ من الجانب الآخر. لديّ شعورٌ قوي بأنّ هيكل الفيلم ينبغي أنْ يكون على هذه الشاكلة. لا أقصد أنّ قراءتك غير مُصيبة، فالفيلم مفتوح على التأويلات كلّها. لكنْ، بالنسبة إلي، ترامب شخصية تراجيدية، كلّما بلغ نجاحه وقوّته ذروتهما يتقلّص جنونه. هذا مأساويّ في العمق.
(*) في حرفية الاشتغال أيضاً، أُعجبت كثيراً بطريقة إدارتك الممثلين، خاصة جيرمي سترونغ.
الذي لم يُرشّح لجوائز "روح الاستقلالية"، للأسف.
(*) وليست مصادفة أنْ يكون الممثلون جيدين جداً، لأنّ هذا حال كلّ أفلامك.
كنت محظوظاً للغاية.
(*) ما الذي حاولت استكشافه مع ممثليك، خاصة بالعمل على مناخات وأحاسيس مختلفة، وتنقّلك بين الأنواع السينمائية؟
الأمر برمّته مع الأنواع السينمائية أنّي... (يتردّد). أنا قادمٌ من الأدب والهندسة المعمارية، وأول ما أنجزته يُمكن تسميته أفلاماً فنية أو تجريبية. أدركت أنّي إذا خاطبت المنتجين قائلاً "لنصنع فيلماً مع شخصين قبيحين وسمينين يتجوّلان عاريين في غابة" (تلميح لقصة فيلمه الطويل الثاني "حدود" ـ المحرّر)، سيقولون: "حظاً سعيداً في ذلك". لكنْ، إذا وصفت الشخصيتين بـ"عفريتين أو ترول" (كائنات من الأساطير النوردية والفولكلور الاسكندنافي ـ المحرّر )، سيجيبون: "الآن لدينا فيلم يُمكننا تمويله".
أعتقد أنّي أحاول نوعًا ما إيجاد طريقة للعمل في نطاق السينما التجارية، ومع ذلك أنْ أشتغل على ما أهتمّ به: استكشاف مواضيع ربما فيها شيءٌ من الذاتية، وقليل من الانفصال عن الحياة اليومية، أو ما يُسمى "واقعية المطبخ (Kitchen Sink Realism)". في الوقت نفسه، أهتمّ بعالمنا، بتأمّل حياتنا وعبثيتها. أعتقد أنّ ما يجعل الحياة مثيرة للاهتمام، أنّها شاعرية وعبثية في آن، وإذا رأيت الجانب العبثي فقط، أو الجانب الشعري منها، تغدو نوعاً ما رتيبة وغير مُثيرة للاهتمام بما يكفي.
هذا بالضبط ما أسعى إلى استكشافه مع الممثلين. أحاول دفعهم إلى أنْ يكونوا على طبيعتهم، وفي الوقت نفسه قريبين من فكرة الشخصية التي يؤدّونها، أياً تكن. أنْ يكونوا مزيجاً من النجوم والبشر. أعتقد أنّ التوتر والتحوّل الذي يمرّون به مثيران للاهتمام. محظوظٌ باشتغالي مع أشخاص لديهم انفتاح وشجاعة في الذهاب إلى هذه المساحة، ومحاولة تجربة الأشياء بعقل منفتح، ولديهم أيضاً عدّة مهنية ومهارات، تجعلنا لا نفقد تركيزنا في التجريب، وأنْ يظلّ الهدف الحقيقي نصب أعينهم. بديهي أنْ أرى في الممثلين الذين أعمل معهم فنانين حقيقيين، أنْ أشعر بالتزامي منحهم حرية كاملة للعمل، لكنْ لديهم مسؤولية أيضاً. الأمر يسير في الاتجاهين.
(*) أودّ سؤالك عن رؤيتك لقطاع توزيع الأفلام المستقلّة في أميركا. مثير للاهتمام أنّ فيلمك ليس الوحيد الذي نال استحسان النقاد وحصد ترشيحات لجوائز مهمّة، لكنّه يعاني مشكلة التوزيع. هناك الوثائقي "لا أرض أخرى" مثلاً. ما انطباعك عن إشكالية التوزيع في الولايات المتحدة؟ هل فاجأك شيء حول التوزيع الدولي للفيلم أيضاً؟
أعتقد، وهذا ربما يتعلّق بعدم معرفتي الكبيرة بقطاع التوزيع في أميركا، أنّ توزيع الأفلام المستقلة عندنا انهار تماماً. كانت هناك شركات توزيع كثيرة، وأناس عديدون مُستعدّون للمجازفة، حتى لإنجاز أفلامٍ أكثر مغامرة. اليوم، انحصر الأمر في حفنة من الناس، ما أثّر على أفلام عدّة هذا العام، بما فيها فيلمي. هناك أسباب عدّة. إنها مسألة مُعقدة. هناك عاملٌ مُهمّ: الصناعة الأميركية غير مُهتمّة بالأمور السياسية، ولم تكن كذلك أبداً. لطالما كانت هوليوود مكاناً محافظاً نسبياً، ولا تزال.
اليوم، تمكّنا أخيراً من تحقيق إيرادات تعادل الموازنة المصروفة. لكنّنا تعادلنا بطريقة مثيرة للاهتمام بالنسبة إلى فيلم يتمتّع بجاذبية نجومه، وموضوعه المثير، وحواراته باللغة الإنكليزية. رغم كلّ ذلك، جزءٌ قليل من الإيرادات جاء من السوق الأميركية، عكس المتوقّع. من ناحية أخرى، يمكن القول إنّ جزءاً أكبر بكثير من المنتظر جاء من السوق الدولية، وهذه ظاهرة مُثيرة للاهتمام. أعتقد أنّ وضع التوزيع ساعد في قلب المعادلة. الشيء المشجع شعوري أنّ هناك توجّهاً بدأ ينتشر بين الشباب، إذْ يفضّلون مشاهدة الأفلام في دور السينما، فغدت هذه الأخيرة مرة أخرى المكان المناسب لعيش تجربة الأفلام. ليس بالحجم الجماهيري العريض، بل بطريقة التخصّص الضيق (Niche)، لكنّه يظلّ مفيداً.
مشكلة التوزيع مطروحة، ولن تزول بين عشية وضحاها.
(*) مع "عنكبوت مقدّس" و"المتدرّب"، سعيت إلى خلق تجربة مغايرة تماماً مع كلّ فيلم. ماذا ستنجز بعد ذلك؟
لا أعلم حقّاً. هذا جوابي القصير. حدّدتُ قائمة مشاريعي في منتصف عقد 2010، وخرجت الأفلام تباعاً. لكنّ العالم تغيّر بشكل كبير منذئذ، وأنا تغيّرت أيضاً. لذا، أعتقد أنّه كي لا أفقد التحكّم، أنجز فيلماً تلو آخر، من دون رؤية. أرغب في التوقّف فترة، والنظر إلى ما حدث، وتأمّل الواقع. مثير للاهتمام أنْ نعترف بأنّنا لسنا سيئين فقط في خلق وتقديم محتوى سياسي للجمهور، فنحن سيئون جداً في رؤية عالمنا المعاصر. لا نزال عالقين في صناعة أفلام عن الحرب العالمية الثانية، والحديث عن قيمتها الاستعارية حول حاضرنا. هذا عبثي. بينما لا أحد يتناول ما حدث في الثمانينيات والتسعينيات، أو بداية الألفية الجديدة. أعتقد أن هناك أشياء كثيرة حدثت في السنوات العشر أو الخمس عشرة الماضية، ينبغي استكشافها. صعبٌ النظر إلى الأشياء القريبة منّا، لكننا لسنا بالضرورة بحاجة إلى مسافة زمنية طويلة لنكون سديدين.
(*) هل تعتبر أنّ "العالمَ بمثابة فرجة تلفزيونية" الموضوعُ الرئيسي لـ"المتدرّب"؟
هذه استعارة مُثيرة للاهتمام. ما يمكنني قوله أن اللافت في شخصية روي كوِن الفهم الغريب الذي لديه حول العلاقات العامة والإعلام، وأنّ هناك جانباً أدائياً لما يفعله. كان شخصية أدائية للغاية، ومُعلناً بانفتاح مثليّته على طريقة ليبيراتشي. أعتقد أنّ ترامب ورث هذه الشخصية الأدائية، واشتغل عليها وطوّرها، وقضى في ذلك ساعات طويلة أمام الكاميرا. لذلك، عندما ظهر في المناظرة الأولى، عام 2015، أطاح الجميع بالضربة القاضية. الجميع يقولون: "إنّه هاوٍ، لكنّه جذّاب ساحر. إنّه ليس سياسياً بل حقيقي جداً". لكنّ الحقيقة أنّ الرجل حاز نصف قرن من التدريب الإعلامي. طبعاً، عندما يأتي شخص كحاكم أوهايو، ظلّ مُختبئاً في مكتبٍ كلّ حياته، ليس لديه أدنى حظّ في مواجهته. المُثير للاهتمام مع ترامب، الذي أصبح الآن تقريباً قاعدة في سلوك السياسيين، أنّه يلعب دائماً شخصية ما. كان يلعب شخصية في السبعينيات، ولعب أخرى في الثمانينيات، وأخرى مغايرة في التسعينيات.
من الأشياء التي أحببتها بما قام به سباستيان، أنّه فَكّ شفرة أداء شخصية بصدد تأدية شخصية، فبدا كأنّه يلعب ثلاث طبقات من الشخصيات في الوقت نفسه.
