صراع الواقع والخيال قديم، وقد يكون جوهر الأدب. خاض كثيرٌ من كتّاب القرن العشرين، مثل بورخيس وبيسوا وأونامونو وبيرانديللو، في هذه المنطقة التي لم تكن أدبيةً فحسب، بل ميتافيزيقية أيضاً. في حالة الكاتب الإيطالي لويجي بيرانديللو، لم تكن مسرحية "عمالقة الجبال" خاتمة عمله كلّه، بل شهادة استمر في كتابتها خلال سنواته الأخيرة، إلا أنَّ رحيله في 10 كانون الأول/ ديسمبر 1936 جعله يتركها غير مكتملة.
وقد يحدث أن يترك مبدعو المسرح نصّاً ما طوال حياتهم ثم يقطّروه في قصيدة أخيرة. مثالان على ذلك: "العقاب بلا انتقام" للكاتب الإسباني لوبي دي فيغا، أو "العاصفة" للإنكليزي ويليام شكسبير. تنتمي مسرحية "عمالقة الجبال" من تأليف بيرانديللو، التي تُعرض حالياً على خشبة مسرح "فيرناند غوميز" في مدريد، وتستمر حتى الثلاثين من آذار/ مارس، إلى هذه الأعمال التي تعدّ أعلى منها نوعاً ومستوى، ذلك أنها أثبتت نفسها في تاريخ التمثيل المسرحي.
بحثٌ عن موقفٍ صادق أمام واقع عمالقة معاصرين في عالم بلا روح
رغبة بيرانديللو في اختراق حدود المسرح والحياة، تجسّدت هنا على يد المخرج الإسباني سيزار بارلو الذي جعل مساحات التمثيل تتغيّر بين مكان وآخر: من قاعة الاستقبال في المسرح المليئة بالمرايا إلى خشبته، وهو ما يعكس فكرة رؤية الأنا والآخر، إضافة إلى التنقل من مكان إلى آخر في العمل المسرحي، تماماً كما تنتقل الكونتيسة إيلسي مع فرقتها المسرحية إلى سكالوجنا؛ تلك الجزيرة التي تبدو وكأنّها "مكان مثالي" عند سفح الجبل، بحثاً عن مكان لتمثيل عمل مسرحي عنوانه "حكاية الابن المتغيّر" (نص من تأليف بيرانديللو نفسه)، يُنسب في المسرحية إلى شاعر انتحر بسبب حبّه للكونتيسة نفسها.
يرحب الساحر كوترون بالفرقة المسرحية في قصرٍ تسكنه أشباح وأرواح غريبة، ومع ذلك، لا يبدو أنها تسبّب أي قلق للممثلين. يوضّح لهم أنهم في مكان مميّز حيث يمكن لأحلامهم أن تتحقّق إذا أرادوا ذلك حقاً. يحاول الساحر أن يجعل إيلسي ترى أنَّ الملابس التي يرتديها رفاقها ليست مجرد تنكّرات، بل هي حقيقة ما يتوقون إليه من دون وعي، ويقنعهم جميعاً بأن رغباتهم وأمنياتهم، إذا سمحوا لها بالظهور بكامل قوتها، يمكن أن تصبح حقيقة في هذا المكان.
حينها يعتقد الممثلون أن حظهم من الآن فصاعداً سوف يتغيّر، وأن البؤس المالي الذي يرافق المسرح دائماً سيتخلى عنهم مرة واحدة وإلى الأبد. ولكن كوترون الساحر سرعان ما يسحبهم من تفكيرهم ويجعلهم يدركون أنّ هذا هو جنّة الأحلام، أفضل غذاء للسعادة. هذه الحالة تخلق صراعاً في الفرقة، ذلك أن عليهم أن يقرّروا ما إذا كانوا يريدون التمثيل في العالم الذي أتوا منه أو يفضلون البقاء في "المكان المثالي"، حيث يبدو أن كل شيء يمكن أن يصبح حقيقة.
يركز العمل على موضوع الثنائيات المتضادة، حيث يتشابك كل شيء ليعطينا منظوراً اجتماعياً حول الفن والحياة، ومن ثم محاولة الإجابة عن سؤال من نوع: هل نفعل ما نحلم به أم ما نعتقد أن المجتمع يطلبه منا؟ من هو هذا الأنا الذي أراه في المرآة لكنني لم أتعرف عليه بعد؟ ومن هو هذا الآخر إن لم يكن الأنا في مرآة؟ وهل لدينا القدرة على التعاطف لفهم ما يحتاج إليه الآخر؟ ما المكان الذي نريد أن نشغله في حياتنا؟
خيارات المخرج في الإضاءة والأصوات الموسيقية المرافقة للعرض، إضافة إلى فكرة تغيير مكان التمثيل بين خشبة المسرح وقاعة استقباله، أضافت لمسة جديدة إلى عالم بيرانديللو بأكمله، بحيث بدا أن المسرح وحده لا يقرّبنا من الحقيقة، بل الشعر أيضاً: الخرافة، والروحانية، والخيال. وكل شيء هو نفسه مسخر لصالح موقف صادق في الوجود أمام واقع العمالقة المعاصرين، أمام فكرتهم عن عالم بلا روحٍ، عالم ماديّ وميكانيكي.
