عن السُّويداء أحكي

منذ ٢ شهور ٥١

عن السُّويداء أحكي، عن ندوةٍ أدبية قدّمتُها بعد حوالي شهرٍ من تحرير البلاد، وبرد كانون، وجميع الخدمات في أسوأ حالاتها، والخلافات بين عديد التيارات السياسية في أوجها؛ هل سيتسّع هذا الحال لندوةٍ أدبية؟

كانت هذه أسئلتي بعد دعوة من "الهيئة الاجتماعية للعمل الوطني"، وهي المبادرة التي انطلقت مع أول سنوات الثورة، وانتمتْ إليها صفوةٌ من المشتغلين بالشأن السياسي والثقافي، حين كان أيّ حراك يُكلّف صاحبه الاعتقال أو التغييب، هذا غير فقدانه لحاضنته التي كانت أكثريّتها ضدّ الثورة. والمكان في مقرّ "منظّمة جذور" المشتغلة في الفنّ والثقافة، والتي سبق أن أُغلقت أكثر من مرّة بسبب القمع، وكان إغلاقها الأخير من القائمين عليها لغياب الخدمات اللازمة. ليعود السؤال: هل للثقافة مكانٌ وسط هذا الحال؟

الثقافة بتعريف ابن خلدون هي "الدراية الجيّدة بكلّ ما يتعلّق بمجالٍ ما فكراً وممارسة". هي الدراية إذاً؛ تنمية الذوق والعقل بأنشطةٍ تُغذّي الحاجات الروحيّة للإنسان، وهي بهذا المعنى نتاجٌ اجتماعيّ ومُلْكيّةٌ اجتماعية، تتنامى من خلال عملية التعلّم والعمل على تطوير الإبداع وتناقله من جيلٍ إلى جيل عن طريق اللغة. 

ليعود السؤال: هل للثقافة مكانٌ وسط هذا الحال؟

وإن كان البشر غير مُخيَّرين في مكان ولادتهم، ولا إلى مَن ينتمون، ولا فيمَن سيُربّيهم صغاراً. لكنّهم يكبرون ويصبحون أنفسهم فقط فيما أنجزوه من تعليم وما اختاروه لسلوكهم الإنسانيّ، وأيّ تأثيرٍ وأثر يريدون لحياتهم أن تصنعه وتتركه خلفهم بعد أن يرحلوا.

أنا أَدينُ للثقافة بما أنا عليه. ولغتي حامل ثقافتي، تُبقي أفكاري حيّةً حين تضيق بي أسباب الحياة. هكذا تابعتُ أفكّر وأنا أرى الصالة الكبيرة تغصّ بالحاضرين، جالسين وواقفين، ولا تدفئة فيها ولا هي مُجهَّزةٌ حتى بميكروفون أو طاولةٍ يجلس إليها الضيف المُحاضِر ومُقدِّم الندوة.

كانت عُدّتي هي النَّصّ الذي تعِبتُ في اختياره للقراءة أمام جمهورٍ ذوّاق، أهابُه أكثر من نقّاد مختصّين وحصيفين، جاء بدوره بعُدّة الحماس والشغف للاستماع، ولن يرحمني إن لم يكن نَصِّي على قدر تطلُّعاته. وقد يشفع لي أمامه أنني أفنيتُ سنوات عمري، غير نادمة، في الاشتغال على نفسي على أمل أن أكون أهلاً لها.

يحتشد أمامي جَمْعٌ من بنات وأبناء البلد، أساتذتي ومعلّماتي وأصدقائي وأقاربي، وهؤلاء يعرفونني منذ كنتُ طفلةً يتوارى طموحها واجتهادها خلف خجلها الطاغي. ومن عرفك صغيراً لن يوقّرك كبيراً إلّا إذا أدهشته. وسواهم كثيرون هُم أكثر من أهتمُّ بهم، ممّن يعرفونني ولا أعرفهم، جيل الشباب الذي كبر والبلاد في حرب، قرؤوا كُتبي التي نشرتها كلّها خارج سورية وعرفَت طريقها إليها من تحت الطاولات، نلتقي كلّنا للمرّة الأُولى بعد غيابي الأخير الطويل عن البلاد، وجهاً لوجه. كان امتحاني أمامهم بأن يسمعوا منّي ما يُحاكي آلامهم وآمالهم على السواء، الشبيهة بآلام وآمال الإنسان أينما كان.

فاخترتُ قراءة نَصٍّ حول قضايا الكتابة في نبذ الظلم والانتصار لحُرّية الإنسان، وقضايا الأُسرة والتعليم وكيف للرواية أن تطرحها وتُحدث أثرها البطيء إنما المستدام.

أكثر من ساعةٍ وأنا أقرأ لا بصوتي وحده، بل بجوارحي كلِّها، وتهيبي واحتسابي، وأنظاري على امتداد الصالة، ليُهيّأ لي أنها تُصغي بجوارحها أيضاً. كان يكفيني لكي يخبو توتّري أمامهم ألّا أرى أحداً يتململ أو يخرج، ثم لأقرأ بعدها ما كتب بعضهم على صفحاتهم: "يحدث أن يتمنّى السامع لو تنتهي المحاضرةُ سريعاً ليرتاح"، أو "تمنّينا اليوم ألّا تنتهي هذه الأوراق بين يديكِ لنبقى سارحين في ملكوت الأدب". 

لا تنحصر الثقافة في مجال الأدب، كما لا يجوز حصر دائرة المثقّفين بالأدباء والشعراء، إنما تعني، كما أوضح ابن خلدون، الدراية بما نقول ونفعل، أن يكون المقال والعمل على قدر المقام، ومقام الناس هو الأعلى، وأن يتحدّث المشتغل بالشأن العام باختصاصه وحده ولا يتعدّاه إلى سواه، وأن يشتغل من أجل الناس لا من أجل نفسه، وإن لم يكن كذلك فليتنحَّ جانباً لأنه أبداً سيكون خاسراً ووحيداً مقصيّاً. 

هي رسالتي إلى المشتغلين بالسياسة قبل سواهم: هلّا تُراجعون أنفسكم طويلاً وتُفكّرون، كيف لندوة ثقافية واحدة قد تجمع حولها أضعاف من تستقتلون لجمعهم ولا تفلحون؟


* كاتبة ومترجِمة سوريّة مقيمة في ألمانيا

قراءة المقال بالكامل