مع سقوط النظام السوري، واستعادة الأراضي من قبضة نظام الأسد، ظهرت تطوّرات جديدة، أثارت تساؤلات عن مستقبل سورية ووحدة أراضيها. في ظلّ التحولات الكُبرى التي تمرّ بها البلاد بعد سنوات من النزاع والدمار، يبرز السؤال الأكثر أهمية: هل يمكن أن يكون النظام اللامركزي الحلّ الأنسب في المرحلة المُقبلة؟
في مناطق الشمال الشرقي، حيث تسيطر قوات سوريا الديمقراطية (قسد) على أجزاء من ريف محافظة حلب، ومحافظتَي الحسكة والرقّة بشكل كامل، بالإضافة إلى ريف محافظة دير الزور الشرقي (ما تُعرف بالجزيرة السورية)، التي تُعدّ من أغنى المناطق السورية من ناحية الثروات النفطية والباطنية والزراعية، تتبنّى هذه القوات نهجاً يتسم باللامركزية، بل تسعى إلى إقامة نظام فيدرالي في المناطق التي تسيطر عليها. غير أن هذا التوجّه قد يعزّز الانقسامات العرقية والطائفية بين المناطق المختلفة في سورية، خاصّة في ظلّ التنوّع الكبير للمكونات السكّانية، مثل الأكراد والعرب والسريان، إذ يسعى بعض هذه الجماعات إلى تحقيق حكم ذاتي موسّع. وهذا قد يؤدّي إلى تقويض وحدة الدولة السورية. ورغم أن اللامركزية قد تُعتبر وسيلة لتوسيع المشاركة الشعبية وتخفيف العبء عن الحكومة المركزية، فإن تطبيقها في السياق السوري قد يواجه تحدّيات جسيمة تهدّد وحدة البلاد واستقرارها.
منذ وصول حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970، وقبل أن يورّثها لابنه بشّار، قامت الدولة السورية على نموذج مركزي يعزّز السلطة المطلقة للرئيس. كان هذا النموذج يعتمد على التحكّم المباشر في جميع مفاصل الدولة، بهدف الحفاظ على السيطرة الفردية، وتكريس هيمنة المركز على جوانب الحياة السياسية والإدارية كافّة. وقد كانت القرارات السياسية تُتَّخذ في دائرة ضيّقة من المقرّبين، ما جعل أي نوع من المشاركة الشعبية أو المؤسّساتية أمراً بعيداً عن الواقع. وحتى مجلس الشعب أصبح أداة تجميلية للنظام بدلاً من أن يكون هيئة تشريعية حقيقية. علاوة على ذلك، ظلّ التوزيع التنموي للمناطق السورية غير متوازن، فكانت المدن الكبرى، مثل دمشق وحلب، تحظى بحصّة كبيرة من الموارد، بينما كانت المناطق الريفية مثل دير الزور والرقة تعاني من التهميش، ما ساهم في تعزيز شعور الغبن لدى سوريين عديدين. بعد هذه التجارب، أصبح الانتقال إلى نموذج جديد من الضرورة الملحّة لاستكمال أهداف الثورة. ما تحتاجه سورية ليس حكماً مركزياً شديد التركيز، بل نموذجاً يسمح بالمشاركة الواسعة للمجتمع والمؤسّسات المحلّية في اتخاذ القرار، فيمكن أن يُعيد هذا النموذج الثقة بين المواطن والدولة، ويُساهم في تحقيق عملية سياسية أكثر استدامة وشمولية.
قد تساهم اللامركزية في ترسيخ المحاصصة السياسية إذا وُزِّعت الصلاحيات بناءً على الانتماءات الطائفية أو المناطقية
تتمتع سورية بنسيج اجتماعي وثقافي وإثني متنوّع، يعتبر من أبرز ثرواتها الحضارية، ما يمنحها كثيراً من الخصوصية والتميز، إذا أُدير هذا التنوع بوعي واحترام متبادل. إلا أن اللامركزية في السياق السوري تظلّ محفوفة بالعديد من المخاطر. فقد تؤدّي إلى تعزيز الانقسامات الطائفية والعرقية في بلد يعاني من تنوّع شديد في مكوّناته. اللامركزية قد تزيد من هذه الانقسامات بدلاً من أن تكون وسيلة لتعزيز الوحدة الوطنية، كما قد تفتح الباب أمام صراعات جديدة بين المناطق المختلفة، ممّا يعرّض وحدة سورية للخطر. من جانب آخر، قد تساهم اللامركزية في ترسيخ المحاصصة السياسية إذا وُزِّعت الصلاحيات بناءً على الانتماءات الطائفية أو المناطقية. ومن شأن هذا أن يضعف المؤسّسات الوطنية، ويحوّلها كياناتٍ تعكس الولاءات الطائفية بدلاً من الولاء للوطن، ما يحدّ من فرص بناء دولة قانون حقيقية، ويعمّق الفجوات السياسية والاجتماعية بين المناطق.
يجب أن يكون الهدف الرئيس بناء هُويَّة وطنية جامعة تعزّز الانتماء إلى الدولة السورية
لتجاوز هذه التحدّيات، يجب أن يكون الهدف الرئيس بناء هُويَّة وطنية جامعة تعزّز الانتماء إلى الدولة السورية بدلاً من الانتماء للعرق أو الطائفة أو المنطقة. هذا يتطلّب جهوداً حثيثة في مجالات التعليم والإعلام لبناء ثقافة شاملة تعترف بالتنوع العرقي، ولكن في إطار الوحدة الوطنية. كما لا يمكن تجاهل دور المؤسّسات الحكومية في ضمان العدالة والمساواة في توزيع الموارد والخدمات بين جميع السوريين. وقبل الحديث عن اللامركزية خياراً سياسياً، على سورية التركيز أولاً في بناء المؤسّسات الوطنية، التي يمكن أن تدير شؤون البلاد بكفاءة وشفافية. هذا يشمل ضمان العدالة في توزيع الموارد والخدمات، ومكافحة الفساد الذي يشوّه هيكل الدولة. كذلك، يجب أن تكون هناك خطوات جادّة لمعالجة الانقسامات الطائفية والعرقية التي خلّفتها الحرب.
إذا نظرنا إلى بعض التجارب الدولية، مثل ألمانيا وإسبانيا، نجد أن الفيدرالية أو اللامركزية يمكن أن تكون مفيدة في حالة وجود هُويَّة وطنية قوية ومؤسّسات قادرة على دعم هذا النموذج. ولكن تطبيق هذا النموذج في سورية يتطلّب شروطًا خاصّة، لا سيّما فيما يتعلّق بتعزيز الهُويَّة الوطنية، وإصلاح المؤسّسات، وتوزيع الموارد بشكل عادل.
سورية بحاجة في هذه المرحلة إلى نظام مركزي قوي قادر على توحيد الجهود الوطنية وإعادة بناء الدولة. اللامركزية قد تكون خياراً مستقبلياً بعد تحقيق الاستقرار، ولكن في الوقت الحالي قد تشكّل مخاطر كبيرة تهدد وحدة البلاد. الأهم حالياً هو بناء دولة المواطنة والعدالة التي تضمّ جميع السوريين من دون استثناء، وترسيخ القيم الوطنية التي تضمن للجميع فرصاً متساوية في بناء مستقبلهم المشترك.
