عن مسلسل "شارع الأعشى"

منذ ١٧ ساعات ١٦

وقفنا قبل عام عند المسلسل السعودي "خيوط المعازيب"، فرأينا فيه نقلة في الدراما السعودية، لنجاحه في الخروج من الدائرة النمطية لكثيرٍ من أعمال الدراما الخليجية، إن لم يكن لغالبيتها، التي تدور أحداثها وحواراتها في الفلل الأنيقة والسيّارات الفارهة، نائيةً بنفسها عمّا يعتمل في ثنايا مجتمعاتنا من تحوّلات، وتجلّياتها على الصُّعد المختلفة، وأعاد إلى الدراما التلفزيونية الخليجية عامةً روحها التي عُرفت به قبل عقود، من خلال بعض المسلسلات الكويتية كـ"درب الزلق" و"خالتي قماشة"، والبحرينية مثل "سعدون"، والمسلسل السعودي "طاش ما طاش"، خاصةً في مراحله الأولى، وغيرها من الأعمال التي رصدت التحوّلات المجتمعية في بلداننا، وللأسف! حلّت بعد هذا التألق حالٌ من التراجع والميل إلى السطحية والخفّة.

بوسعنا اليوم أن ندرج المسلسل الذي بُثّ في رمضان الماضي "شارع الأعشى"، في إطار "النقلة" التي نريدها للدراما في الخليج، خاصّةً إذا نُظر إليه من زاوية أشمل من التي تناولته بعض الكتابات الصحافية، إذ لم يتخطَّ النظر فيها حدود العلاقات العاطفية التي أتت في سياق العمل، ولم تنظر إليها في سياق تناولها مرحلةً مهمّةً من تحوّل المجتمع السعودي، وهو ما كان موضوع الرواية التي أخذ منها المسلسل "غراميات شارع الأعشى" (دار الساقي، بيروت، 2013)، للأديبة السعودية بدرية البشر، وما الشارع المذكور، الذي يحمل اسم أحد شعراء الجاهلية (تعني مفردة "الأعشى" مَن هو غير قادر على الرؤية في الظلام)، إلا تعبير مكثّف عن مجتمعٍ متحوّل بكامله، فسعت الكاتبة لتناول جوانب من التطوّر الاجتماعي، خاصّة مع دخول أجهزة التلفاز البيوت، ووصول المجلّات العربية، بما فيها الفنّية، إلى متناول أيدي الجيل الجديد من الشبّان، وكذلك الشابّات اللائي يسّرت لهن الظروف دخول المدارس، وهذا ما يتجلّى خاصّةً في شخصية الفتاة المتمرّدة وقويّة الشخصية "عزيزة".

ومن خلال دور "عزيزة"، وسواها من الفتيات والنساء في المسلسل، "عواطف" و"عطوة" و"مزنة" وغيرهن، سنقف أكثر على وضع المرأة في مجتمع كُسِر فيه طوق العزلة، لكن دون تحرّره من قيود الماضي عقبات ليست قليلة، تجلّت في المسلسل بصورة واضحة، فالأب "أبو إبراهيم"، المنفتح الذي أدخل ابنتيه "عواطف" و"عزيزة" المدرسة، وسمح لهما بقراءة مجلّات مثل "الموعد"، ومشاهدة الأفلام المصرية، والاستماع لأغاني سعاد حسني، وغيرها، لم يكن بوسعه التحرّر من عبء الموروث حين زوّج الابنتَين قسراً من رجلَين، أحدهما في عمره، عندما لمس بدايات ميل قلبَي الابنتَين إلى شابَّين. والمرأة لا تحضر في المسلسل من خلال ما اعتمل في نفوس الشابّات من مشاعر وتطلّعات وتمرّدات استجابةً لنداء قلوبهن، ومن توقٍ إلى حياةٍ أخرى كتلك التي قرأن عنها في الروايات وشاهدنها في الأفلام، فقط، وإنما من خلال إبراز دور المرأة الحاسم في مواجهة الحياة، وتحدّي صعابها بإرادة قوية، وهو ما جسّدته على خير وجه "وضحى"، التي أدّت دورها بكفاءة الفنّانة إلهام علي.

لو وقف المسلسل (وقبله الرواية) عند حدود هذا الأمر، لما تحقق لهما التميّز، فما مرّت به النساء في المسلسل من معاناةٍ لم يأتِ مبتوتَ الصلة عما يمور به المجتمع من تناقضات وصراعات حادّة، كان التعبير الأبرز عنها اقتحام الجماعة المتطرّفة التي عرفت بجماعة جهيمان للحرم المكّي، وهو هجوم يجب أن يُقرأ ردّةَ فعلٍ محافظة على بواكير التحديث في وعي المجتمع السعودي وسلوكه، بل يمكن اعتباره من بواكير السلوك العنفي للجماعات المتطرّفة الذي سيظهر بصورة أوسع وأخطر في مراحل تالية، لا داخل السعودية وحدها، وإنما على المستوى الإقليمي.

أطلق تمرّد جهيمان العتيبي، رغم القضاء عليه، الظاهرة التي عُرفت بـ"الصحوة"، بما شهدته من أوجه تضييق شديد، في المجتمع والثقافة والفنّ، على كلّ ما يمتّ إلى الجديد بصلة، وأظهر المسلسل ما واجهته النساء، بسببها، من عسف، كذاك الذي شهدناه في السوق المعروف بـ"سوق الحريم"، الذي تبيع فيه النساء الكادحات بضائعَ لتدبّر شؤون عائلاتهن.

سيتيح تتبّعُ المشاهد لما أحاط بمسار شخصيَّتَين في المسلسل، هما "سعد" و"جزّاع"، الوقوفَ عند تجلّيات ما أحدثه الفكر المحافظ من تأثير سالب في وعي الجيل الجديد من الشبّان، ما يجعلنا نخلص إلى القول إنّ "شارع الأعشى"، وقبله رواية "غراميات شارع الأعشى"، تناولٌ موفّقٌ لتناقضات تعتمل في القاع بين رؤيتَين في مجتمع تشدّه الحداثة إليها بقوّة، فيما تُظهر المحافظةُ مقاومةً شرسة لذلك.

قراءة المقال بالكامل