السابع والعشرون من يناير/كانون الثاني 2025، يوم للتاريخ، يتمثّل في صور يجب أن توضع في أرشيف العالم. ها نحن نرى أدلة تاريخية على خرافات تأسّست على مدار عقود، أهمها تلك القائلة إن الفلسطينيين غادروا أرضهم طوعاً عام 1948، وإنهم باعوا أرضهم، وإن دولة الاحتلال كانت تدافع عن نفسها، ولم تمتلك منهجاً لقتل الفلسطينيين وإبعادهم.
اليوم تخرج هذه الصور لتقول عكس ذلك تماماً. هكذا بكل بساطة وعشوائية، صور تتناول فرحة عودة آلاف النازحين بعد شهور من التهجير القسري. هؤلاء النازحون، الذين اضطروا إلى مغادرة منازلهم في أعقاب الحرب الإسرائيلية البشعة على قطاع غزة أعقاب السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، يعودون اليوم ليكتبوا قصصهم وذكرياتهم فوق ركام بيوتهم. تظهر هذه الصور رجالاً مسنين يمشون بعكازاتهم، ورجلاً يُقبّل تراب غزة ويبكي، وأطفالاً يغنون في شوارع جُرّفت، وعائلات تحتضن بعضها بعضاً. تُظهر الشوارع تمدّ نفسها تحت أقدام أهلها. شارع الرشيد، من أكثر الشوارع حيوية في قطاع غزة، طاوله الدمار أيضاً حتى تحول إلى جسد ممدّد متألم، لكنه باقٍ ليقول معنا القصة، ويشهد على الحكاية، وينفي عن أهله كل الخرافات.
عودة النازحين اليوم ليست مجرد رحلة جسدية، بل هي تجسيد لحقهم التاريخي في العودة، وهي خطوة تقاتل الأفكار والمعتقدات التي لطالما روج لها مؤرخون صهاينة، مثل بني موريس. في كتابه "ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين" (1988)، حاول موريس أن يصور الفلسطينيين وكأنهم تركوا أراضيهم بإرادتهم، وأنه لم تكن هناك أي منهجية وخطط لاقتلاع الفلسطينيين من مناطقهم. يراوغ مثله مثل غيره من المؤرخين الذين أطّروا للنكبة، للقول إن ما حدث للفلسطينيين كان ضرورة عسكرية، لحرب خاضها الأشرار ضد الأخيار، ويقصد هنا الجيش العربي. تجاهلت ماكينة الاحتلال العلمية والبحثية والأكاديمية والتأريخية على مدار عقود، القتل المتعمد، وسياسة الإلغاء والتطهير التاريخي لقصة الفلسطينيين، بل عمدت إلى حرق الأرشيف الفلسطيني، وأي أدلة من شأنها أن تكون حجة على أن هذه الدولة قائمة على إنكار الحقيقة. كان أرشيف فلسطين في لبنان شاهداً على ذلك، إذ دمر الاحتلال في عام 1982 أرشيف منظمة التحرير في لبنان، ونهب وسرق الوثائق في خطة ممنهجة لطمس القصة الفلسطينية، وإخفاء أدواتها، ومسح قدراتها.
كل هذا يتداعى اليوم أمام مشاهد العائدين، فالصور التي تُلتقط اليوم من عودة النازحين تتجاوز الحكايات القديمة التي تحاول إنكار حق الفلسطينيين في الأرض والحياة. هذه الصور لا تكشف فقط عن واقع أن الفلسطينيين متمسكون بجذورهم وأرضهم وهويتهم، بل تُدحض الروايات التاريخية المضللة التي تمسح الذاكرة، وتعيد تأسيس السرد الوحيد الذي يسعى الاحتلال إلى رسمه. مثلاً، مصطلح "الرحيل الطوعي" الذي يستخدمه المؤرخون الصهاينة لتبرير ما حدث في عام 1948 أصبح اليوم في مواجهة مباشرة مع مشهد هؤلاء النازحين العائدين إلى منازلهم، إذ إنهم لم يختاروا الرحيل، بل اختاروا العودة فوق الركام والآلام والخسارات.
الصور التي تظهر التدمير الممنهج لكل البنى التحتية، هذه الأراضي التي تحولت لصحراء، الظلال التي لم نعد نراها في الصور، إذ غابت أرض غزة بغياب البيوت والمؤسسات والمستشفيات والمدارس التي مُسحت في الحرب التدميرية... هذه كلّها تثبت المنهج المتعمد لإلغاء المساحة والمجال والحيز الفلسطيني. هذه الصور تؤكد أيضاً وجود خطط ممنهجة مستمرة للإبادة والتطهير العرقي، والتي تقدم لنا اليوم أدلة تاريخية تؤكد أن هذا الاحتلال يتبنى منهجية قديمة مؤكدة ووحيدة، وهي التطهير العرقي، وأن الفلسطينيين مستمرون من دون وعي ومنهج منهم في دحض هذه الروايات، قد يكون الإعلام متكفلاً بذلك، والصور متكفلة بذلك، وأصوات الأطفال وهم يغنون على أرض مسحوقة... كل هذه المشاهد تتكفل بالمهمة الآن.
في نهاية المطاف، فإن الصور التي نشهدها اليوم من قطاع غزة تمثّل أكثر من مجرد وثيقة تاريخية؛ فهي بمثابة تأكيد على أن الحق الفلسطيني في العودة لا يزال قائماً، وأن كل شعارات الإنكار والإقصاء لم تكن إلا محاولة لقلب القيم الإنسانية. ومع كل خطوة يخطوها العائدون، يُسجّل التاريخ من جديد، ليُذكّر الجميع بأن فلسطين ستبقى دائماً في قلوب وأرواح أبنائها، وأن العودة حقٌ لا يمكن تجاهله أو القضاء عليه.
بينما تتجلى مشاهد العودة في عمليات التوثيق، يجب أيضاً النظر إلى كيفية تأثير الروايات التاريخية على فهم الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. اعتمدت الروايات الرسمية الإسرائيلية على سرديات تبسيطية أسست لأساطير كبيرة. هذه الأساطير لم تُؤسس فقط على عوامل ذات طابع عسكري، بل ساهمت أيضاً في تشكيل فهم تاريخي يتجاهل الحقائق البشرية والمعاناة الحقيقية التي عاشها الفلسطينيون.
بفضل الصور التي تُظهر العودة الآن، تُكذب هذه الروايات التاريخية التي حاولت إلغاء الحق الفلسطيني. الصور تُظهر القلوب النابضة والوجوه التي تحمل تاريخاً من الألم، ما يقدم صوتاً جديداً للفلسطينيين، صوتاً يدعو إلى الاعتراف بحق العودة، ويظهر كيف أن الإجبار على مغادرة الأرض لم يكن اختياراً، بل كان نتيجة سياسات قاسية ومنهجية مارسها الاحتلال.
تجسّد هذه الصور روح العودة وثقافة الذاكرة الفلسطينية، وتدعم فكرة أن الفلسطينيين لن يُحذفوا من سجلات التاريخ. إن الأحداث اليوم تشكل بداية جديدة، وكل صورة تقف في وجه التاريخ، لترسم مشهداً حياً يعبّر عن عزيمة الشعب الفلسطيني، وإصراره على حقوقه غير القابلة للتصرف. تظهر العودة إلى غزة اليوم أن الفلسطينيين قد تواصلوا مع تاريخهم وحكاياتهم. وبذلك، تُضاف هذه الصور إلى أرشيف الحقيقة، لتؤكد واحدة من أكبر الحقائق التاريخية: أن الفلسطينيين ليسوا مجرد أرقام في كتاب التاريخ، بل هم شعب لديهم قصصهم وأحلامهم، والحق في العودة إلى وطنهم هو حق لا يمكن غفرانه أو نسيانه.
