عودة ترامب أكثر عدوانية: عجرفة وتوسّع ونبأ سار للمستبدّين

منذ ١ شهر ٤٣

تُثبت عودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، اليوم الاثنين، أن التاريخ السياسي في العالم، وخصوصاً في الولايات المتحدة، ليس عقلانياً بما يكفي، ليتجنب ربما مشهداً سوداوياً قد يحصل خلال السنوات الأربع المقبلة، أو تمهدّ له الولاية الثانية لترامب، أو مزيداً من الفوضى، التي لن تعيد بالضرورة ترتيب النظام العالمي على قاعدة تكريس الهيمنة الأميركية، بل قد تنذر بمزيد من الأزمات. وهذا ليس تنجيماً أو من بنات أفكار خصوم الولايات المتحدة، إذ تقول معظم القراءات، ومنها في مراكز الأبحاث مقرّبة من دوائر القرار في واشنطن وتقدّم المشورة السياسية لها، إن حركة "ماغا" التي يتزعمها ترامب، وشعارها "لنجعل أميركا عظيمة مجدداً"، ليست مجرد شعار شعبوي اخترعه الملياردير الأميركي لجذب الناخبين، بل تعني أكثر ما تعني أن نظرة ما متراجعة إلى القوة الأميركية، كان تسري بين الأميركيين، لم تحسّنها حروب العقدين الماضيين، ولا حتى استمرار التفوق العسكري. ويقول أحد المسؤولين الغربيين، كما تنقل عنه شبكة بي بي أس الأميركية، تعليقاً على عودة ترامب إلى البيت الأبيض، إن "المشكلة اليوم، التي زادت مع عودة ترامب هي أننا أصبحنا أمام رئيس أميركي، بات يعرف ما عليه فعله في ولايته الثانية"، وهو ما قد يقود إلى تبدلات كثيرة على المستوى الدولي والمشهد العالمي.

تنصيب ثانٍ لترامب بعد وهم الاحتراق

وبحفل مكتمل النصاب، يشهد البيت الأبيض، اليوم الاثنين، تنصيب ترامب لولاية ثانية، بعدما كان الرئيس الجمهوري قد غاب عن تنصيب سلفه جو بايدن في يناير/كانون الثاني 2021، ورأى كثيرون حينها أن مشروعه للبقاء السياسي قد احترق، بعد اقتحام أنصاره مقر الكونغرس لمنع المصادقة على فوز بايدن بالرئاسة. حتى أن هناك من صدّق أن نهاية ترامب، ستكون السجن، في ظلّ اعتقاد بأن خصومه السياسيين لن يكلّوا قبل القضاء عليه وعلى ما يشكّله من "خطر" بشكل تام. وغلب الظنّ بأن "الدولة العميقة" في واشنطن، لم ترد عودة ترامب أو بقائه في المشهد بأي شكل من الأشكال.

يعتزم ترامب في الأيام الأولى بعد عودته للسلطة، إصدار عشرات الأوامر التنفيذية، المتعلقة بالحوكمة والحدود والتعرفات الجمركي

هذا الاعتقاد فقد مصداقيته اليوم، مع عودة ترامب وانتظار حوالي 100 قرار في المكتب البيضاوي قد يتخذها على الفور في اليوم الأول من عودته للسلطة، وبفريق عمل أكثر تكاملاً وانسجاماً من ولايته الأولى، والأهم أن هذا الفريق مصمم على تنفيذ أجندة مُغامرة وعدوانية مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، يُجمع الخبراء على أنها ترفع عنوان عودة الإمبريالية الأميركية على الصعيد الخارجي، في نموذج لتعزيز الهيمنة الاقتصادية أولاً، واستعراض العضلات أمام الصين، واستخدام كل الوسائل في الداخل، لإنجاح أجندة اليمين المتطرف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، حيث سيختبر المجتمع الأميركي المزيد من الاحتكارات القائمة على حروب التجارة والتعرفات الجمركية وإغلاق الحدود، في سياسة متقدمة لترامب، للحفاظ على هيمنة الشركات الأميركية وقطاعات التصنيع وضرب المنافسين، لكنها تعدّ مقامرة تغامر بإرباك السوق العالمية وإدخالها في نوع جديد من الحروب.

وكان ترامب استبق وصوله إلى البيت الأبيض، بالإعلان عن بعض نياته التي كشفت عن أسلوب عمله وأجندته المقبلة، ومن بينها على الصعيد الخارجي، حيث حلّت المطامع التوسعية القائمة على مبدأ الصفقات والمقايضات والإكراه، مكان الانكفاء، فيما أبقى الرئيس الأميركي المنتخب على البعض الآخر يلفّه الغموض، أو عدم نضج خرائط الحلّ، لاسيما في ما خصّ الحرب الروسية على أوكرانيا، التي وعد ترامب بإنهائها في الأشهر الأولى من عودته للحكم.

مشاريع توسعية لإضعاف الصين

وتقود كل المشاريع التوسعية في ظل عودة ترامب إلى الرئاسة، والتي يطرحها الأخير، اليوم، ومن بينها مطالبته باستعادة الولايات المتحدة السيطرة على قناة بنما التي تربط المحيطين الأطلسي والهادئ، والضغط لشراء جزيرة غرينلاند التابعة للدنمارك والغنية بالموارد الخام، في القطب الشمالي، "ولو بالقوة"، وإبداء شراهة لفكرة ضمّ كندا للولايات المتحدة بجعلها الولاية الـ51، إلى الصين و"الحرب الباردة" الأميركية معها، في ظلّ التنافس المحتدم بين العملاقين الاقتصاديين والعسكريين، على أساس أن مستقبل هذا التنافس في العقد المقبل، سيحدّد شكل النظام العالمي الجديد. ويطرح ترامب من أجل ذلك، تسعير الحرب التجارية حول العالم، وعدم إبداء الرحمة تجاه الحلفاء، وعلى وجه الخصوص الأوروبيين، حيث يفسّر الرئيس الجمهوري ذلك بأن الولايات المتحدة "كانت كريمة بما يكفي، وحلفاءها جاحدون".

هذا الأمر، كان عبّر عنه الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، حين تحدث عن "الراكبين بالمجان"، في إشارة إلى الحلفاء، فيما أكدّ بايدن، منذ أيام قليلة ماضية، أنه يترك الولايات المتحدة "أقوى" لإدارة ترامب، وهو ما عليها أن تستكمله الأخيرة، في إشارة إلى ما ترى فيه الولايات المتحدة إنجازات كبيرة حقّقتها في الشرق الأوسط مع إضعاف المحور الإيراني، وحتى مع روسيا، التي غرقت في حرب مكلفة وطويلة بأوكرانيا. ويجعل ذلك السياسات الأميركية، متتابعة وغير متصادمة بالضرورة، ولو مع اختلافات منهجية بالشكل، بين الحزبين، وبين ترامب والسياسيين الآخرين، حيث إن الرئيس الجمهوري الذي يتسلّم مهامه اليوم مجدداً، لا يحتاج إلى إخفاء رأيه بالأوروبيين الذين يرى فيهم منافسين، أو بالمنظمات الدولية التي يعتبرها عبثية وتقضم من ميزانية الولايات المتحدة، كما لا يرى حاجة للترويج للهيمنة الأميركية عن طريق تقسيم العالم بين ديمقراطيين وديكتاتوريين.

عشرات الأوامر التنفيذية مع عودة ترامب

ويعتزم ترامب في الأيام الأولى بعد عودته للسلطة، إصدار عشرات الأوامر التنفيذية، المتعلقة بالحوكمة والحدود والتعرفات الجمركية وتخفيض الضرائب والتأثير على النظام التربوي، دون حاجة لموافقة الكونغرس. ويعد ترامب بإقرار أكبر عملية ترحيل للمهاجرين غير النظاميين، لإرضاء قاعدته الشعبية، وبناء معسكرات توقيف لهم عملاقة، مع زيادة عديد حراس الحدود وعناصر إنفاذ القانون، وتحويل جزء من الإنفاق العسكري إلى قطاع تأمين الحدود، واستدعاء بعض القوانين لطرد مشتبه بهم بارتكاب جرائم وقيادة عصابات المخدرات. ولحماية الحدود، يريد ترامب أيضاً العودة إلى سياسة "البقاء في المكسيك"، التي اعتمدها في ولايته الأولى، حيث يجبر طالبو اللجوء إلى الولايات المتحدة على البقاء في المكسيك لحين بتّ طلباتهم، ما يحمّل الدولة الجارة العبء الأكبر من أزمة الهجرة غير النظامية. وقد يذهب ترامب إلى سياسات أبعد تتسم بصفر مسامحة، تتعلق بفصل العائلات. وبينما يتوقع أن يمرر الكونغرس الأميركي مع عودة ترامب على رأس الإدارة الأميركية، والذي بات يهيمن عليه الجمهوريون كلّ قرارات ترامب المرتبطة بهذا الملف، إلا أن الأخير من المرجح أن يواجه مقاومة من النظام القضائي، الذي قد يعرقل بعض مشاريعه بشأن الحدود، والتي لم يكشف عن كلّ تفاصيلها بعد.

ويردّد ترامب، بحسب موقع "بوليتيكو"، أن كلمة "التعرفة الجمركية"، هي أحب كلمة في قاموسه. وكشّر الرئيس الأميركي المنتخب عن أنيابه، حيال الخصوم والحلفاء، في هذا الملف، حيث إنه يعتزم فرض رسوم جمركية على المكسيك وكندا بنسبة 25% على كل منتجاتهما الواردة إلى الولايات المتحدة، كما تعهد بفرض رسوم جمركية تصل إلى 60% على كل السلع الصينية، لكبح جماح الصين، وسط تحذير اقتصاديين من ارتفاع كبير في أسعار السلع عالمياً نتيجة ذلك، وارتفاع نسبة التضخم في الداخل الأميركي، في وقت يرى آخرون أن ذلك سيعزّز الإنتاج المحلي. وقد يردّ حلفاء ترامب من الدول الأوروبية، إذا ما توسعت حرب التعرفات الجمركية ضدّهم، بإجراءات مماثلة على ترامب.

يقف ترامب أمام احتمالات عدة، خاصة بأوكرانيا، منها ما هو شديد المرارة لواشنطن

وتأخذ الحرب الجمركية، أجندة ترامب، إلى كيفية مقاربته الملفات الخارجية المحتدمة حول العالم. إذ بينما يجري تنصيب ترامب بعدما تمكن من فرض صفقة لوقف إطلاق النار في غزة، على رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، بعد حرب إبادة على القطاع استمرت 15 شهراً، إلا أن سياسته تجاه منطقة الشرق الأوسط، ستعتمد بشكل أساسي على كيفية مقاربته للملف الإيراني، ولاستكمال مشروع عزل إيران، سواء عبر مواصلة إضعافها ولو بالقوة، لانتزاع صفقة معها بالشروط الأميركية الإسرائيلية، أو حتى الذهاب أبعد من أجل إسقاط النظام، فيما سيبني ترامب في ذلك من دون شك على إنجاز إسقاط نظام بشار الأسد في سورية، على أن يتوقف المشروع أيضاً على مدى قدرة إيران على الصمود.

وفي الشقّ الروسي، تشكّل أوكرانيا حتى الآن معضلة لترامب، الذي لم يفصح عن أي خطة لإنهاء الحرب هناك، والتي زادت خلال الأعوام الماضية، أزمة الهجرة واللجوء حول العالم، وكلّفت ميزانية الولايات المتحدة مليارات الدولار، وراهن عليها بايدن لإضعاف روسيا وإنهاكها اقتصادياً وعسكرياً. ويقف ترامب أمام احتمالات عدة، خاصة بأوكرانيا، منها ما هو شديد المرارة لواشنطن، التي لا تريد رؤية هزيمة كييف وابتعادها عن إمكانية ضمّها إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وهو ما قد يحوّلها إلى دويلة ضعيفة على الحدود الروسية، فيما أن أي خطة للحل تلحظ انهزاماً لكييف، تتطلب مقايضة أميركية مع روسيا لدفعها للانسلاخ عن الصين، وهو أمر مخفوف بالصعوبة بعدما أصبح الاقتصاد الروسي خلال سنوات الحرب، معتمداً كلّياً على الصين. أما بالنسبة للأخيرة، فإن مقاربة ترامب للملف، عبر تسعير حرب التجارية، تواجه أيضاً احتمال التصعيد العسكري (تحريك الفيليبين وتايوان)، فيما يرى مراقبون أن بكين لن تبقى مكتوفة الأيدي أمام الضغط الأميركي، وهي قد تتخذ أيضاً سلسلة إجراءات جديدة لفرض نفسها أكثر على الساحة الدولية، وسط اعتمادها على عشرات الشراكات التجارية، ومن بينها مع دول وثيقة التحالف مع أميركا، مثل أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية، حيث ستكون مهمة تفكيك هذه الشراكات شبه مستحيلة.

في الخلاصة، تبقى الكثير من سياسات ترامب المقبلة، غامضة المعالم، ولو أن تصريحاته الأخيرة تكشف عن مطامع توسعية وأجندة بحسب مجلة "ذا أيكونوميست" لم تعد تعتمد على الترويج لـ"أميركا الحميدة"، أو لعالم أكثر استقراراً، كما كان الوضع عليه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وبحسب المجلة، في تقرير لها نشرته الخميس الماضي، بعنوان "دونالد ترامب ينهي 80 سنة من السياسة الخارجية الأميركية"، فإن ترامب "سيرمي القيم جانباً، وسيركز على مراكمة واستغلال السلطة"، مضيفة أن "مقاربته سيتم اختبارها وستحددها 3 صراعات: "الشرق الأوسط، أوكرانيا، والحرب الباردة مع الصين". وبرأيها، فإن المنحى الذي سيأخذه ترامب لمعالجة هذه الملفات، ستكون حاسمة لإظهار إلى أي مدى سيطبق نظرته القائمة على مبدأ "إرساء السلام عن طريق القوة". وحذّرت المجلة من أنه إذا ما استخدم ترامب القوة، لإخضاع بنما أو كندا أو غرينلاند، فإن ذلك سيقوي الديكتاتوريين، والمستبدين. كما حذّرت من مسار لن يقود إلا إلى فوضى أكبر، ليس فقط بسبب ترامب، بل بسبب من أسمتهم بـ"المُعطلّين" المحيطين بالرئيس الأميركي الـ47، من أمثال مرشحه لوزارة الدفاع بيت هيغسيث. من جهته، رأى معهد "شاذام هاوس"، في 14 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أن سياسة ترامب "أميركا أولاً"، لن تفعل سوى تسريع محاولة الصين للقيادة العالمية، خصوصاً إذا ما شهدت ولاية ترامب الثانية قطعاً نهائياً للولايات المتحدة مع المنظمات الدولية، والاتفاقيات المناخية.

قراءة المقال بالكامل