لا يمر عيد الأم على السوريات كأي يوم عادي، فهو يحمل أثقالاً من الذكريات المؤلمة والحنين إلى الأحبة، لكنه يحمل أيضاً بصيص أمل للقاء طال انتظاره، وتتشابك حكايات الأمهات السوريات في نسيج من المعاناة والصمود.
في الغوطة الشرقية بريف دمشق، وجدت هدى خيتي "أم خالد" نفسها أخيراً قادرة على احتضان أبنائها وأحفادها بعد عشر سنوات من الفراق. تقول السبعينية السورية لـ"العربي الجديد": "كانت تصلني صباح كل عيد أم رسالة معايدة على هاتفي، فقد فرقني الغربة عن أولادي لسنوات، وجمعنا الواقع الافتراضي. يعيش اثنان من أولادي في السويد لاجئين، وابنتي تقيم مع أسرتها في تركيا، لذا كنا نجتمع عبر وسائل التواصل الاجتماعي، واعتدت أن أكلمهم يومياً حتى لا أشعر بمرارة غربتهم وبعدهم عني، ، لكني اليوم أعيش حلمي بأن أراهم أمامي، وأحتضنهم بعد عودتهم جميعاً مع أولادهم. أجواء البهجة عادت إلى منزلي بعد سنوات من الصبر الذي كان رفيقي خلال سنوات الغياب".
في ريف درعا، عاش منزل فريال الخطيب "أم عبد الله" لحظات شبيهة، إذ عاد أبناؤها الثلاثة بعد سنوات من النزوح إلى الشمال، ولم يكن مشهد الضحكات وصوت الأطفال مجرد عودة للحياة، بل فرصة لاستعادة ذكرياتها مع ابنها الذي قتل خلال الحرب، يحيى، الذي تتذكره في كل عيد.
بلهجتها الحورانية، تروي الستينية السورية لـ"العربي الجديد": "مرت 14 عاماً من الفقد كالجحيم. لم أنسَ ذلك اليوم المشؤوم الذي سقط فيه صاروخ على بيتنا، فاستشهد ابني الصغير يحيى، ومنذ ذلك الحين تشتت إخوته، وتركوني مع زوجي وحيدين. هذا العام مختلف، فقد عاد أبنائي حاملين الأحفاد والهدايا، وأصبحت الدار تعجّ بأصوات الأطفال. سأعد طبق يحيى المفضل كما لو أنه لا يزال بيننا".
ومن حمص، تسرد سناء الحاج مصعب، وهي أم لخمسة أبناء، حكاية الألم والأمل، إذ فقدت اثنين من أبنائها خلال سنوات الحرب، واعتُقل اثنان آخران، فيما بقيت مع ابنتها الوحيدة. تقول لـ"العربي الجديد" بحزن: "اعتدت أن أحتضن ملابس أبنائي، فقد رحلت فرحة عيد الأم معهم. لكن يوم التحرير حمل معه مفاجأة لم أكن أتوقعها، إذ أُفرج عن ابني أيوب ومحمد من المعتقلات. كنت أبتسم وسط دموعي، وهذا أول عيد أم أشعر فيه بالسعادة منذ سنوات، رغم أن ذكرى ابنيّ الشهيدين لا تفارقني، وهديتهم الأخيرة ستظل أغلى ما أملك".
في صباح عيد الأم، تستيقظ نجود الحداد (55 سنة) باكراً. تتجه نحو المطبخ لتحضير القهوة الخالية من السكر كما يحبها ابنها إبراهيم، والذي ودّعته قبل ثمانية أعوام مع أخته راما، ليحملهما الغياب والغربة بعيداً عنها. بينما تحتسي قهوتها، تقوم بقلي البيض مع قطع البندورة والفلفل الأخضر، كما كانت تطلبه دائماً ابنتها، تلك "المشاغبة" التي كانت تغمر المنزل بضحكاتها.
تجلس نجود في انتظار مكالمة من ابنها وابنتها المغتربين، وتقول لـ"العربي الجديد" وهي تمسح دموعها التي سالت من دون استئذان: "أحترق ببعدي عنهما، لكن الضغط عليهما للعودة إلى البلاد يُعد قمة الأنانية. لا يمكنني الاحتفال بعيد الام، ولا سبيل سوى الانتظار، والتمسك بالأمل، فالغد أفضل بعد تحرير سورية من نظام الاستبداد".
ومع الأزمة المعيشية التي تعصف بالأسر السورية، باتت الهدايا التقليدية التي تحمل معاني الفرح والاحتفال بعيدة عن متناول كثيرين، وفي ظل ارتفاع التكاليف بالتزامن مع شهر رمضان، تلجأ العديد من العائلات إلى الاحتفال بالأمهات بوسائل بسيطة تعكس الحب، مثل تقديم بضعة وردات أو هدايا رمزية.
إلى جانب الحكايات الفردية لأم خالد أو أم عبد الله أو سناء أو نجود، هناك آلاف الأمهات السوريات اللواتي مررن بمرارة الفقد والتهجير، ورغم ذلك، تبقى لحظات اللقاء والدفء العائلي إشراقة أمل تعيد الحياة إلى المنازل التي أرهقتها سنوات الحرب، وللبعض، يبقى صوت الهاتف الذي يربط الأمهات بأبنائهن في الغربة نافذة أمل تختصر لحظات الشوق التي تختزنها هذه المناسبة التي لم تعد كغيرها من الأعياد.
من دمشق، تؤكد المرشدة الاجتماعية أمينة أمدار لـ"العربي الجديد"، أن "الأمهات السوريات يعشن على أمل لقاء يجمعهن بأبنائهن، سواء اولئك المغتربون أو المفقودون، فيما تتذوق أخريات مرارة فقدان الأحبة. الحرب جعلت الأمهات الخاسر الأكبر، إذ تكتوي قلوب كثيرات منهن بألم الفراق، والخوف على من تبقى، ويحملن تبعات الشوق ومرارة الدموع والحسرات، بينما يواصلن أداء أدوارهن في لمّ شمل العائلة، وتأمين ملاذ آمن".
تتابع أمدار أن "بعض العائلات الأوفر حظاً، يمكنها الاجتماع بعيداً عن الحروب أو الاعتقالات، لكن تظل الظروف المعيشية الصعبة سبباً في غياب أية مظاهر للفرح أو الاحتفال، فالفقر وتردي الأوضاع المعيشية يؤثران بشكل كبير على كل تفاصيل الحياة، ويقتصر الاحتفال على اجتماع الأسرة من دون هدايا أو مظاهر فرح تقليدية". تضيف: "تبرز أهمية الدعم النفسي والمعنوي للأمهات اللواتي فقدن أحباءهن، والتقرب من هؤلاء وسماع قصصهن وإتاحة الفرصة لهن للتعبير عن مشاعرهن خطوة مهمة لتجاوز الأحزان. في حال رفضت الأم الحديث، يجب احترام رغبتها، إذ يمكن أن يؤدي الضغط عليها للتعبير عن مشاعرها إلى آثار نفسية سلبية على المدى البعيد".
