"عينا مونا" لتوماس شليسّير... دروس الحياة من خلال الفن

منذ ١ يوم ٢٢

ربما ليس من السهل على أيّ كان، ولا سيّما طفلة لم تتخطَّ عتبة العاشرة من عمرها، أن تميّز بين النظرة العابرة بعين الجسد، والبصيرة التي ترى بقلب الروح، أو أن تدرك الفرق بين خطوات الأقدام على مسارات الطرق، وسفر الروح عبر آفاق الفن الخالد. هذه الأفكار وغيرها هي محور رواية "عينا مونا" للكاتب الفرنسي توماس شليسّير، والصادرة مؤخراً عن "منشورات وسم" بترجمة عربية قامت بها روز مخلوف.

تواجه مونا، الطفلة ذات العشر سنوات، شبح ظلام يهدّدها بطمس نور عينيها خلال 52 أسبوعاً فقط، إذ "شَعَرتْ بظلّ ثقيلٍ ينزل على عينيها، كما لو أراد أحد مُعاقبتهما، لكونهما زرقاوين، وكبيرتين، ونقيّتين". تحتار عائلتها كيف تعالج الأمر، وبعد زيارات متكرّرة لعيادات الأطباء، من دون الوصول إلى نتيجة، يطلب جدّها هنري من والديها أن يتركوا له أمر الطفلة.

من هنا تبدأ رحلة الرواية بين الجد والحفيدة، إذ بدلاً عن ارتياد عيادة طبيب نفسي كما أشار طبيب النظر، يختار الجد لحفيدته درباً مغايراً: رحلة أسبوعية ممتعة إلى أروقة متاحف باريس، كي يزرع في ذاكرتها لوحاتٍ مضيئة، كنوزاً بصرية من النحت والفن التشكيلي تتحدّى العتمة الزاحفة، وتكون لها ملاذاً ونوراً وسط ظلامٍ دامس يُهددها بالقدوم.

سرد غني متعدّد الطبقات يجمع بين متعة الأدب والمعرفة الفنية

تتجاوز الرواية حدود السرد التقليدي، إذ تأخذ القارئ ضمناً خلف تساؤلات مؤثرة: ما هو الفن؟ وكيف يُصبح مرآة للإنسانية؟ وما الذي يربط بين النظر السطحي والبصيرة الروحية العميقة؟ بل كيف يتحوّل الفن إلى شعلة تتوهّج في الذاكرة، كي تضيء العتمة وسط أشد الأوقات قتامة؟ وهل يمكننا حقاً أن ننقل جمال الإبداعات الفنية إلى الأجيال الشابة المهووسة بالتكنولوجيا؟

استخدم شليسّير، بصفته مؤرخاً للفن، خبرته الواسعة في تاريخ الفنون لدمج السرد الروائي مع النقد الفني. فمن خلال حوارات مونا وجدها هنري، نتعرف إلى أعمال فنية شهيرة من عصر النهضة إلى الفن الحديث، مع تحليل دقيق لأبعادها الفنية والفلسفية، وإضاءة وافية عما دار في أزمنة الرسامين، وفي خبايا أرواحهم، وزمنهم الواقعي. هذا المزج بين السرد الروائي الذي يتميز بالحبكة المقلقة مع مونا المهددة بالعمى، والتأملات الفنية الثريّة، جعل الرواية غنية ومتعددة الطبقات، تجمع بين المتعة الأدبية والمعرفة الفنية.

يمكن اعتبار الجد هنري، مصدر الحكمة والدعم العاطفي، والشخصية المحورية التي تقود مونا في رحلتها الفنية. هو رجلٌ مثقّف وبشوش، لم يسع لأن يكون مرشد حفيدته في عالم الفن فقط، بل أراد أن يقدم لها دروساً في الحياة من خلال الفن، ويعلمها كيف ترى العالم بعينين مختلفتين: العين التي ترى الظاهر، والعين التي تُبصر الروح.

ما الذي يربط بين النظر السطحي والبصيرة الروحية العميقة؟

من خلال رحلة مونا في المتاحف، نرى كيف يُمكن للفن أن يأخذنا نحو أفق رحب، وحافل بالمسرات التي تتسلل إلى قلب المخيلة، فتسكن الذاكرة، وتُخبئ الجمال كي تستدعيه الروح عند غياب الرؤية المادية للأشياء.

تفتح الرواية باباً واسعاً للقرّاء لنهل معرفة فنية ممتعة بتاريخ الفن، ومراحله، وطبيعة تلقّيه، حيث يتردّد صدى نقاشات ثرية بين مونا وجدها، توقظ الحواس وتنبّهها نحو اكتشاف الوجود من خلال رؤية جديدة لحيوات مضت تاركة بصماتها المؤثرة؛ عبر التأمل في اللوحات والارتحال بين خطوطها، وألوانها، وتحليل لعبة الضوء والظل، ثم السماح لذلك الشعور الفطري، الحي والمتدفق بالحضور بتلقائية، مع انفعال جمالي، يتجلى في حالة غبطة تحدث عند التفاعل مع الفن الحقيقي.

لذا كل زيارة للمتحف بين هنري ومونا، في كل يوم أربعاء تُقدم درساً في الحياة تتلقاه الطفلة، ويستقبله معها القارئ، في شكل حوار حيوي مع الجد الذي يتدفق في الكلام مُخاطباً حفيدته بتفاؤل يُزيل الحدود بينها وبينه، هو يرى بعينيها، وهي ترى بعينيه، يزرع فيها الثقة بحواسها وتلقيها للجمال وتأويلها له، ويستمع لكلماتها عن المنحوتات واللوحات.

تمثّل العلاقة العميقة بين الجد وحفيدته بُعداً إنسانياً مؤثراً في الرواية؛ في وقت يتجه فيه المجتمع الغربي نحو الفردية أكثر من التواصل العائلي؛ حيث نرى الجد بثقافته الواسعة وحكمته، يُعلم مونا كيف ترى العالم من خلال الفن العظيم، بينما تقدم مونا، ببراءتها وفضولها، نظرة جديدة على هذه الأعمال الفنية. هذه العلاقة تُظهر كيف يمكن للأجيال أن يتعلم بعضها من بعض، وكيف يُمكن للفن أن يكون همزة الوصل بين الماضي والمستقبل، لذا بدا اختيار شليسّير للجد كي يحلّ مكان الأب أو الأم لفتة ذكية، في تقديم تحية تقدير للمتقدمين في السن، واعترافاً بدورهم في حياة الأجيال الأصغر. ومن جانب آخر، عبّرت مونا من خلال زياراتها الأسبوعية إلى "اللوفر" و"أورسيه" و"بومبيدو"، عن تغيير واقعي في تطوّر فهمها للإنسانية والجمال. تنمو مخيلتها، وتصبح قادرة حقّاً على رؤية الجمال في قلب الظلام، مما شكّل شخصيتها، وجعلها أكثر قوة واستعداداً لمواجهة التحديات التي تنتظرها.

تنتشر على مدار الصفحات أسماء عظيمة في تاريخ الحضارة الإنسانية، هؤلاء الذين استقرت تجربتهم الحياتية في المتاحف، وغدا ما شكلته أيديهم معروضاً أمام العالم كله، من فناني عصر النهضة في إيطاليا، وصولاً إلى الفن المعاصر، من مايكل أنجلو ورافييل إلى فان غوخ وبيكاسو، ومن دافنشي إلى توماس غانسبوروغ وفريدا كاهلو ومونيه وبيير سولاج وغيرهم.

إنها رواية تفتح أمام قارئها أبواب الحياة والفن في آنٍ واحد، حكاية تعكس تفاصيلها رهافة فنية، وبعداً إنسانياً يتدفق كالنهر المنهمر، ويربط في خيط سحري بين جيلين، ناسجاً بين الزمن والعاطفة، والمكان في اختياره المتاحف لتكون محوراً للأحداث.

لعل ما أراد شليسّير قوله عبر هذه الرواية إن الفن ليس مجرد أعمال معلقة على الجدران، بل هو مرآة تعكس الإنسانية والوجود، كي نرى العالم بعمق، ونتعامل مع تحديات الحياة بروح المبدع. من خلال رحلة مونا، نتعلم أن الفن يمكن أن يكون مصدراً للقوة والشفاء، وأنه قادر على إلهامنا حتى في أحلك اللحظات، عبر اكتشاف حواسنا وإدراك الجمال في التفاصيل الصغيرة.

يذكر أن أسلوب الرواية جمع بين السرد الأدبي العميق والمعرفة الفنية الواسعة، فقد استطاع أن يقدم رواية غنية بالمعلومات الفنية، مع اعتماده على نمطية محددة في سرد الفصول، عبر لغة سلسة، إلى جانب قدرته على بناء حوارات عميقة بين الشخصيتين، مما جعل الرواية مليئة بالتأملات الفكرية والفلسفية في آن معاً.


* روائية وناقدة لبنانية مصرية

قراءة المقال بالكامل