غزة في "كانّ" وتارانتينو أيضاً

منذ ٥ ساعات ١١

مَن أعلن افتتاح مهرجان كان السينمائي هذا العام كان كونتين تارانتينو وهو ليس غريباً عن المهرجان الذي منحه السعفة الذهبية عام 1994 عن تحفته "بالب فيكشن". ورغم ذلك فإن حضور تارانتينو هذه المرة كان غريباً على نحو ما، فالرجل القادم إلى "كانّ" من تل أبيب على الأغلب، حيث يعيش مع زوجته المغنية الإسرائيلية دانييلا باك، وجد نفسه في بيئة غير صديقة إذا صح الوصف، فثمة من يتحدث عن قطاع غزة هنا، وثمة من يوقّع رسالة تعتبر الصمت على استمرار حرب الإبادة عليها عاراً.
وبينما يزداد عدد الموقّعين وليس من بينهم تارانتينو على الإطلاق، تحضر إحدى ضحايا المقتلة أمام عينيه لو رغب بأن يرى، وهي الصحافية الفلسطينية الشابة فاطمة حسّونة (25 عاماً) التي قُتلت بصاروخ إسرائيلي أتى على كل أسرتها باستثناء والدتها (عشرة شهداء بينهم شقيقتها الحامل).
قُتلت حسّونة بعد يوم واحد فقط من إعلامها بأن فيلم "ضع روحك على كفك وامشِ" للإيرانية سبيده فارسي، ويتناول حياتها (حسّونة) خلال المجزرة المفتوحة على صمت العالم كله، قد اختير للعرض ضمن فعاليات المهرجان. 
وقُتلت بصاروح وليس جراء وقوعها في حفرة ممتلئة بالورود خلال تنزهها في الجوار، وليس في حادث سير أو حتى بسبب مرض مفاجئ وخطأ طبي في التشخيص. لقد قُتلت بصاروخ يُوجّه عن بُعد وبدقة بحيث يعرف هدفه تماماً ويمضي إليه، لإبادة الأعداء، وحسّونة منهم رغم أنها مصوّرة فوتوغرافية، وشقيقتها منهم أيضاً رغم أنها رسّامة ولا تعمل في منشأة لتخصيب اليورانيوم أو تصنيع القنابل.
هل يعرف تارانتينو هذا؟ الأمر لا يعنيه، فقد اختار معسكره، وخلال الأيام الأولى من العدوان الإسرائيلي الوحشي، غير المسبوق، على قطاع غزة، هرع المخرج (الأميركي) من شقته في تل أبيب إلى منطقة غلاف غزة، لا ليعرف الأمور عن كثب ويرى الوجه الآخر من الصورة، بل ليكون مع الجنود الإسرائيليين الذين كانوا يستعدون لقتل أطفال غزة، ونساء غزة، وعجائز غزة ونعناع بيوتهم المدمّرة، ولم يكتفِ تارانتينو بذلك، بل التقط صوراً مع جنود أمام مروحية قتالية كانت جاهزة لقصف أهالي غزة وبيوتها.
هذا الرجل لا سواه لا يجد حرجاً في أن يكون تحت سماء واحدة مع جولييت بينوش وسوزان ساراندون وريتشارد غير (لم يحضر المهرجان على الأغلب) وعشرات غيرهم ممن وقّعوا رسالتهم التضامنية مع غزة، والمندّدة بالصمت على مجزرتها. 
لم تكن فاطمة حسّونة  الصحافية الوحيدة التي قتلها أبشع احتلال على وجه الأرض، بل ثمة آخرون: 217 صحافياً قتلوا وبعضهم قضى حرقاً وتفحمت جثته، منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 حتى يوم الخميس الماضي (15 مايو/أيار الجاري) بحسب المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، كثير منهم آباء تركوا خلفهم أطفالاً لا يعرف تارانتينو أسماءهم ولا يريد أن يعرف أيضاً، فقد اختار معسكره وانتهى الأمر.
كل واحد منهم قصة مختلفة، مشحونة بالدراما العالية، بالمآسي الصغيرة، بالآمال التي كان سقفها سماء الله، فانخفضت على أمل مجرد البقاء على قيد الحياة على هذه الأرض التي خلقها ربنا جميعاً، رب تارانتينو وفاطمة حسّونة.
كلهم قُتلوا. كلهم قتلتهم إسرائيل التي يقيم فيها تارانتينو دون أن يتجشم عناء المعرفة، مجرد معرفة ما إذا كان قتلهم جريمةً أم لا.

دعك من هوليوود، من شركات الإنتاج، من الشهرة والجوائز، من منظر البحر من نافذة شقة في الطوابق العلوية في تل أبيب، دعك من كل شيء، ألست إنساناً في نهاية المطاف؟ أليس ثمة فضول لديك أو بقايا شعور أخلاقي؟
في الأمثال العربية أن "الضرب في الميت حرام"، وهذا لا علاقة له بالسينما والدراما ومهرجان كانّ، بل بالخبرة الإنسانية الممتدة من قابيل إلى نتنياهو، إذ إرث القتل والدم يجد من يتغاضى عنه إما إعجاباً وعبادةً للقوة كما قد تكون حالة تارانتينو، أو خوفاً وخشية من البطش، وما بينهما ثمة من لا يخشى بل يصغي إلى أصوات الضحايا من هابيل إلى فاطمة حسّونة، وينحاز إلى قوافل القتلى ويسرد سيرتهم، في الرواية والسينما وبقية الفنون. 
تارانتينو اختار ألّا يكون من بين هؤلاء، فلقد اختار معسكره وانتهى الأمر. 

قراءة المقال بالكامل