بعد قليل ستتوقف الإبادة الجماعية في قطاع غزة. لن تُنسى الجريمة، ولا خذلان وخيانة النظام الدولي لأبسط قواعد الحروب، ولن يُمحى من الذاكرة أن رئيس أميركا جو بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن قدّما كل ما في جعبتهما من صهيونية مساندة للإبادة الجماعية. وبالطبع دون نسيان وقاحة سياسات بعض الغرب، في إصرارهم على استمرار الجريمة وفتح مخازنه العسكرية للاحتلال طيلة 15 شهراً.
ستظل البروباغندا الصهيونية على اعتبار أنه "لا يوجد مدنيون في غزة"، وأنهم "حيوانات بشرية" تذكّر بالوجه القبيح لكيان تفاخر بطلب إفناء الشعب الفلسطيني. نعم، يبقى فرح ناس غزة وفلسطين والمتضامنين معهم حول العالم مقروناً بغصات يصعب نسيانها، فالجريمة لم تعرِّ فقط النظام الدولي، وتسامحه مع مجرمي حرب استعانوا بالاقتباسات التوراتية-التلمودية لصناعة هوس جمعي بجرائم التجويع وإتلاف قوافل المساعدات والتفاخر بارتكاب جرائم حرب، على اعتبار أن الضحايا "مجرد عرب" (من الأغيار بحسب المصطلح اليهودي)، بل هي جريمة فضحت استصغار نظام إقليمي عربي لذاته وأدواره.
مع ذلك، ورغم أهوال الأثمان التي دفعها الفلسطيني صامداً فوق أرضه، فإن غزة اليوم تقدّم أوضح مانيفستو فلسطيني عن معادلات مقاومة الاحتلال والتحرر الوطني. في سياقها جاءت خيبة الفاشيين الصهاينة من توقف الحرب، مدركين أن 77 عاماً من النكبة لم تنل من الإصرار على نيل حقوقه الوطنية والانعتاق من احتلال إحلالي، بطابع أبرتهايد مفتضح أكثر دولياً. لا أحد ينكر "نجاح" الصهيونية منذ عام 1948 في تدمير قرى وبلدات وارتكاب مجازر وتهجير مئات آلاف الفلسطينيين، وتدمير وقتل عشرات الآلاف في غزة. في المقابل فإن انهيار أساطير الفاشية الصهيونية-الدينية، بما فيها تلك التي تمنتها في غزة، ستعيد النقاش رغم أنوفهم إلى أصله.
ويقيناً سيُجبر مجتمعهم على إعادة قراءة "طوفان الأقصى" (السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023)، بعيداً عن سخافة اعتبار كل البشر معادين للسامية. الأسئلة ستمضي بهم نحو ضرورة النزول عن أشجار العجرفة والعنجهية إذا ما أرادوا الإجابة عليها. وسيجبر انكشاف فداحة ما ارتكب قطاعات واسعة بينهم على إدراك أن مئات آلاف أطنان المتفجرات تفشل دوماً في كي الوعي الفلسطيني. وبدون مواجهة الحقائق، مع الاقتراب من العقد الثامن لإصرار الفلسطينيين على الحقوق الوطنية-التاريخية في أرضهم، فلا أحد يستطيع أن يضمن ما ستكون عليه أجيالهم التي عاشت وتعيش جرائم الحرب والإبادة، وآلاف منهم صاروا أيتاماً وأكثر نقمة على الاحتلال الصهيوني. تلك الدروس لا تقتصر على الصهاينة، بل حتى على الساعين في المنطقة العربية إلى تصفية قضية فلسطين.
أما المراهنة مجدداً على اعتبار التطبيع مع الأنظمة السياسية في المنطقة، أو إفلات الإرهاب الاستيطاني في الضفة والقدس، بقصد التهجير نحو الأردن، بديلاً عن الإجابة على أسئلة جوهرية لن يجعل الأجيال الفلسطينية القادمة أقل إصراراً على كفاح نيل التحرر الوطني. فالمعادلة أبسط من أوهام البعض: طالما استمر الاحتلال وواصل جرائمه وإرهاب مستوطنيه، وأصر ساسته على عنجهية القوة، فستبقى فكرة وروح المقاومة حيّتين. وبالمناسبة، بعض الشعوب عاشت عقود استعمار أطول مما تعيشه فلسطين، وقدمت تضحيات بالملايين، ولم يبقَ في نهاية المطاف سوى حرية واستقلال تلك الشعوب، حيث اندحر المستعمر مهزوماً ومخلفاً شروخاً وندوباً في علاقته المستقبلية بتلك الشعوب. الجزائر بلد حر اليوم بعد 130 سنة احتلال فرنسي، ويقدم نموذجاً حياً لفكرة أنه مهما تمادى وطال أمد المستعمر فهو زائل في نهاية المطاف.
