فارس خالد شهيد علم فلسطين وأيقونة طلّاب تونس

منذ ٢ أيام ٢٦

فارس خالد اسم على مسمّى. ولادته كانت في مماته رمزاً وفارساً مقداماً وشهيداً من أجل فلسطين، رفع رايتها عالياً فوق الرايات كلّها، وهو خالد خلود القضية الفلسطينية إلى أن تعود الأرض المُغتصبة إلى أصحابها، ويرتفع العلم الفلسطيني فوق القدس الشريف والمسجد الأقصى المبارك وكنيسة القيامة والخليل وغزّة هاشم، ومدائن فلسطين وحواضرها وتلالها وأريافها وبواديها ومقدّستها كلّها.

ارتقى فارس شهيداً عشية يوم 7 إبريل/ نيسان الجاري. سابق جموع الطلاب التونسيين في يوم غضبهم من أجل نصرة قطاع غزّة وأهله، وتنديداً بتحويل قطعان الجيش الصهيوني القطاع إلى "أبارتهايد"، وحرمان سكّانه من حقّهم في الغذاء والدواء وتدمير مقومات الحضارة البشرية كافّة، ومن إبادة جماعية وتصفية على الهُويَّة، وجعل أجساد الأطفال والنساء وكبار السنّ أشلاءَ تنهشها الكلاب السائبة، وحرمانهم حتى من حقّ القبر الآمن والمعلوم من ذويهم. سارع إلى مدرسته، المدرسة العُليا لعلوم وتكنولوجيات التصميم بجامعة منوبة، مصمّماً على رفع علم فلسطين من دون أن يدري أنه كان يسارع أيضاً إلى الشهادة والالتحاق بالرفيق الأعلى، وذلك إثر انزلاقه من فوق برجٍ عالٍ، هو أعلى نقطة في مدرسته العُليا المُرسَّم بها في السنة الأولى من تعليمه الجامعي (بيان مجلس جامعة منوبة).

جاء في آخر رسالة نصّية قصيرة، أرسلها فارس خالد إلى صديق له يدرس في المدرسة العليا للاقتصاد الرقمي، نُشِر محتواها (فيديو) في صفحة "حكايات الفاك" في "فيسبوك": "يجب أن يوضع علم فلسطين كبيراً في مدخل كلّ مؤسّسة جامعية، وأن يكون ذلك في كنف السرية، على أن يقع الاختيار على أعلى نقطة لا يمكن الوصول إليها، علينا أن نقتني أعلام فلسطين وكلّ منا يضع العلم في مدخل كلّيته، ثمّ تتوسّع هذه الحركة، وعندما يعود الطلبة إلى الدراسة (بعد نهاية العطلة الجامعية) سيجدون شيئاً ما يحدث". حدث ما أراده فارس، فقد خرج طلاب كلّيات الجامعة التونسية ومدارسها عن بكرة أبيهم، في أوّل أيّام الدراسة إلى الشوارع في العاصمة تونس، وفي مختلف المدن التونسية، رافعين رايةَ فلسطين، وملتحمين بجموع غفيرة من شرائح المجتمع المتعدّدة وقواه الحيّة للتنديد بالجرائم ضدّ الإنسانية التي يرتكبها الجيش الصهيوني في غزّة بدعم من الولايات المتحدة، مطالبين الرئيس والبرلمان التونسيين بسنّ قانون يجرّم التطبيع.

لم يحضر فارس ذلك اليوم المشهود، لكن روحه كانت حاضرةً ترفرف بين الجموع، وفي جنازته التي تحوّلت مسيرةً شعبيةً كبرى، ارتفع علم فلسطين عالياً كما كان يريد. شيّعه الآلاف من زملائه الطلاب، ومن الطبقة السياسية التونسية بألوانها المختلفة، وممثّلين عن فلسطين الرسمية والشعبية بتونس، إلى مقبرة الجلّاز، ونعشه يلفّه العلم الفلسطيني، مردّدين الهتافات نفسها التي تردّد في غزّة والضفة والقدس كلّما ارتقى شهيدٌ جديدٌ، "زفّوا الشهيد على الكتوف خلي العالم يشوف" و "يا أم الشهيد نيالك يا ريت أمي بدالك" و"زفوا الشهيد بدمو ألف تحية لأمو" و "لا إله إلا الله والشهيد حبيب الله"، ليسكن إلى جانب من سبقوه من أهل تونس وشهدائها الأبرار وقادتها ممّن قاوموا الاستعمار.

الوقائع التي عاشها فارس وأبناء جيله في تونس كانت كافيةً لأن تبعث فيهم الوعي، والرغبة في العمل لنصرة القضية الفلسطينية

قالت والدة فارس، وهي تشيّع ابنها إلى مثواه الأخير بالزغاريد، "ولدي مات على العلم، مات عريساً، ذهب شهيداً، مات من أجل غزّة، طلب الشهادة فجاءته الشهادة". ودوّن والده، وهو إطار أمني، "فارس كان مؤمناً صادقاً محافظاً على صلواته، وككلّ شابّ حساس وموجوع على القضية الفلسطينية، بسبب ما رأيناه في المواقع الاجتماعية من إبادة إخوتنا الفلسطينيين، كان يؤمن بأنه صاحب رسالة، وبصوت الشباب السلمي والعفوي كان قادراً على مساعدة إخوتنا في فلسطين من غير أيّ أيديولوجيا سياسية، مهما كان نوعها، إلا حبّه لبلده وحرقته على القضية الفلسطينية"، بل كانت لفارس أيديولوجيا غير كلّ الأيديولوجيات، لا تحتمل الهرطقة والتأويل والتلاعب بالكلمات، إنها فلسطين التي آمن بها وبالحقّ الفلسطيني الذي لا يسقط بالتقادم، وارتقى من أجلها شهيداً، فهو من أدّى دور جريح الاعتداءات الصهيونية في إحدى مشاركاته المسرحية خلال شهر رمضان المنقضي بالمركب الثقافي والرياضي بتونس، تضامناً مع الشعب الفلسطيني، ذلك أن فلسطين كانت دائماً مصدر إلهام وإبداعات، ومنبعاً للتضحيات الجسام، ومنبتاً الشهادة والشهداء منذ قرن أو يزيد، منذ أن وعد من لا يملك (الحكومة البريطانية ووزير خارجيتها آرثر بلفور 1917) من لا يستحقّ (ليونيل دي روتشيلد والاتحاد الصهيوني لبريطانيا العظمى).

التحق فارس بعشرات آلاف الشهداء الفلسطينيين وغير الفلسطينيين، ممّن آمن بالأيديولوجيا نفسها، والقضية ذاتها، وارتقى لأجلهما، منهم قادة عظام من أمثال خليل الوزير وأحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وياسر عرفات وأبو علي مصطفى، وآخرين كُثر، وأخيراً يحيى السنوار ومحمّد الضيف وإسماعيل هنيّة وحسن نصر الله. أُجمع على ارتقاء فارس شهيداً في درب فلسطين، والتحاقه بكوكبة شهدائها شركاء القضية الفلسطينية وفرقاء السياسة، فقد أصدر رئيس السلطة الفلسطينية محمود عبّاس مرسوماً رئاسياً يعتبر الطالب التونسي فارس خالد شهيداً للعلم الفلسطيني، ومنحه وسام "فارس فلسطين"، وقصد سفير فلسطين في تونس، رامي القدّومي، مقرَّ سُكنى عائلة خالد وقدّم واجب العزاء. ونعى مكتب العمل الشبابي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، في بيان له، "الطالب التونسي خالد فارس الذي وافته المنية إثر سقوطه من بناء عالٍ أثناء محاولته رفع علم فلسطين في مشهد بطولي"، مضيفاً "نحتسبه عند الله شهيداً بإذنه". محلّياً، اعتبر الاتحاد العام لطلبة تونس (منظّمة طلابية يسارية) فارس خالد، شهيد الرايّة الفلسطينية، وقد رفع العلم الفلسطيني في آخر عمل بطولي قام به، ثمّ استُشهد خلال فعّاليات الإضراب العالمي الداعم لغزّة.

لم يعش فارس نكبةَ فلسطين واحتلالها سنة 1948، ونكستها في 1967، ولم يولد بعد أن تحوّل نصر أكتوبر العسكري عام 1973 هزيمةً سياسيةً استراتيجيةً نتج منها الاعتراف بالدولة الصهيونية وتوقيع معاهدات كامب ديفيد، ولا بعد احتلال بيروت 1982 ومجزرة صبرا وشاتيلا وتوقيع اتفاقية أوسلو 1993 ووادي عربة 1994، وغيرها من أحداث النصف الثاني من القرن العشرين، التي كانت تسير في خطّ تصاعدي هدفه القضاء على القضية الفلسطينية ووأدها إلى الأبد.

فارس خالد اليوم هو أيقونة تونس، بكلّ ما تحمله الكلمة اليونانية القديمة من معنى، ورمز حركتها الطلابية

ولكنّ "سيف القدس" و"طوفان الأقصى"، وملحمة 7 أكتوبر (2023) الخالدة، والعدوان الصهيوني على غزّة المستمرّ لأكثر من سنة ونصف السنة، هي وقائع عاشها فارس ومن جايله من الجيل الشبابي والطلابي التونسي الجديد، كانت كافيةً لأن تبعث فيهم الوعي، والرغبة في العمل لنصرة القضية الفلسطينية، وتقديم التضحيات لأجلها، على خطى أجدادهم وأسلافهم ممّن تطوّع للقتال سنة 1948، وممّن التحق بجبهات القتال في فترات لاحقة، ورسم اسمه بأحرف من ذهب في سجلّ أسماء شهداء فلسطين، ومن أبرزهم ميلود ناجح نومة، بطل عملية قبية سنة 1987، والمهندس محمد الزواري، الذي اغتاله جهاز الموساد في صفاقس سنة 2016.

فارس خالد اليوم هو أيقونة تونس، بكلّ ما تحمله الكلمة اليونانية القديمة من معنى، ورمز حركتها الطلابية، بعد أن بلغ اسمه الأباعد في مختلف أنحاء الدنيا، ورُفِعت صورُه في مسيرات دعم غزّة وفلسطين في كلّ مكان، جنباً إلى جنب مع الراية الفلسطينية التي ارتقى لأجلها، وبعد أن انتشرت تلك الصور في مواقع التواصل الاجتماعي في تونس وخارجها، آخذاً شكل ملاك طائر بأجنحته، يطير عالياً لوضع علم فلسطين في أعلى نقطة يصل إليها، حتى قال فيه الناظم "خالد فارس سبحان من خلّد اسمك وذكرك/ فعلاً فارس استشهدت عن غزّة وأنت بوكرك".

قراءة المقال بالكامل