"فاغنر" في مالي... مقايضة أمن النظام بثروات البلاد

منذ ١ أسبوع ١١

تستنزف مليشيا فاغنر الروسية، المعروفة حاليا بـ"الفيلق الأفريقي" ثروات مالي، إذ تسيطر على مناجم الذهب وتحصل على مدفوعات شهرية من المجلس العسكري الحاكم، في مقابل أمن النظام، الذي يدفع ثمنه المواطنون من دمائهم.

- نجا الخمسيني المالي أخماد أغ توهما، من موت محقق كان ينتظره أثناء مجزرة ارتكبها عناصر مليشيا فاغنر الروسية المعروفة حاليا بـ "الفيلق الأفريقي"، بعدما هاجمت قرية إرسان (Erssane) في ولاية غاو شمالي البلاد في الخامس من أكتوبر/تشرين الأول 2023. لم ينس توهما مشاهد ذلك اليوم التي بدأت بعد وصول دورية يرتدي عناصرها من ذوي البشرة البيضاء زياً عسكرياً يشبه لباس الجيش المالي، وفجأة أطلقوا النيران بشكل عشوائي على المدنيين.

في ثوان اختبأ توهما، في كوخ قريب، بينما لم تتوقف أصوات الرصاص الممزوجة بالصراخ، ومن فتحة صغيرة في مكمنه، شاهد المقاتلين يقتادون بعض الرجال خارج القرية، ليتوقف الهجوم، بعدما أسفر عن 19 قتيلا ظلت جثثهم مبعثرة في المكان، ومن بينهم أفراد من أسرته، كما قال لـ"العربي الجديد" بصوت مختنق بالبكاء:" أحد أسباب الفاجعة، هو اعتقادنا في البداية أنهم جاءوا لحمايتنا، لذلك استقبلناهم بود لكنهم أطلقوا النار على الجميع دون تمييز بين الأطفال والنساء والرجال. كان الأمر أشبه بالجحيم. لم نتمكن من فهم السبب وراء هذا العنف، ما فعلوه ليس له أي مبرر. قتلوا أهلنا ودمروا قريتنا بالكامل وتركونا بلا أمل".

يؤكد الوقائع السابقة رئيس منظمة إيموهاغ الدولية من أجل العدالة والشفافية Imouhagh International Organisation for the Sake of justice & Transparency (غير حكومية تعنى بالدفاع عن حقوق الإنسان) الحقوقي المالي أيوب أغ شمد قائلا لـ"العربي الجديد" من باريس حيث يقيم، أن وجود فاغنر المعلن في مالي، لقتال الجماعات الإرهابية والحركات الانفصالية شمال البلاد، تم بموجب اتفاق بين المجلس العسكري الحاكم والمجموعة الروسية التي وصلت إلى البلاد في ديسمبر/كانون الأول 2021، لمكافحة الجماعات المسلحة.

 

"ماذا يريد الأجانب الموجودون من أرضنا؟"

"ذريعة ما يجرى، هي القتال ضد الجماعات المسلحة، بينما في الحقيقة يتم انتهاك حقوق الإنسان"، بحسب تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش الذي نشره موقع "ريليف ويب" وهو خدمة يقدمها مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية "أوتشا"، في يوليو/تموز 2023، بعنوان "مالي: فظائع جديدة يرتكبها الجيش ومقاتلو فاغنر المزعومون".

و"يدفع المجلس العسكري إلى فاغنر 10 ملايين يورو شهريًا"، بحسب تقرير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية (مؤسسة بحثية دولية)، الصادر في الثاني من ديسمبر/كانون الأول 2021، بعنوان "روسيا ومجموعة فاغنر في مالي: كيف تضعف المخاوف الأوروبية سياسات الاتحاد؟".

وفي المحصلة "نحن عالقون بين الإرهاب وعناصر فاغنر. الخوف يلاحقنا من الجانبين" هكذا يرى عبد القادر أغ عمر، أحد سكان مدينة تمبكتو شمالي مالي المشهد، قائلا لـ"العربي الجديد"، :"لا أحد يفهم ماذا يريد الأجانب الموجودون على أرضنا"؟ وعليه أجاب الخبير المالي في الشؤون الأفريقية أبوبكر الأنصاري، والذي شغل منصب مسؤول الشباب في الحركة الشعبية لتحرير أزواد (جبهة سياسية ذات نشاط عسكري تشكلت في عام 1988) خلال الفترة بين أعوام 1992و1994 قائلا: "الاتفاق جاء لتعزيز قدرات الحكومة العسكرية بعد تدهور الأوضاع الأمنية الناتج من تصاعد عنف الجماعات الإرهابية والمواجهات مع الحركات الانفصالية، وكان من الصعب على الجيش المالي الوجود على الأرض بدون دعم فاغنر".

 

مهام فاغنر في مالي

استقدم المجلس العسكري بموجب الاتفاق ألف عنصر من فاغنر، بحسب تقرير "روسيا ومجموعة فاغنر في مالي"، وكذلك تأكيد رئيس الحكومة المدنية المالية المعارضة في المنفى (أعلن عن تشكيلها في بلجيكا في 26 مايو/ أيار 2024)، محمد شريف كوني، الذي سبق وأن شغل منصب المحامي الأول بالمحكمة العليا في مالي من فبراير/شباط حتى سبتمبر/أيلول 2021، قائلا إنه حصل على مضامين الاتفاق شفويا عبر مصادر في المجلس العسكري، ظل على تواصل معها بعد مغادرته البلاد، مؤكدا أنها تتلخص في حماية الشخصيات الرسمية وتقديم استشارات أمنية، ومواجهة الحركات المسلحة.

سيطرت قوات المرتزقة الروس على مناجم للذهب وطردت المنقبين الماليين

وبدأت المهمة الأساسية للمجموعة، بتدريب القوات الحكومية وحماية نظام الحكم من مهددات السقوط، لكنها سرعان ما تطورت إلى خوض معارك مباشرة ضد الحركات الأزوادية المطالبة بحق تقرير المصير، إذ نفذت عمليات مشتركة ضدها واستطاعت السيطرة على معاقل رئيسية للحركات شمالي البلاد، مثل مناطق كيدال وأمشاش وتساليت وبير، حسب الأنصاري، الذي يقيم في موريتانيا، مشيرا إلى أن المجلس العسكري يعتمد على عوائد التعدين للحصول على الإيرادات التي يحتاجها للدفع لعناصر المليشيا، التي تمكنت بالفعل من الوصول إلى مناجم للذهب، مثل إنتهقا الواقع في ولاية غاو بعد انسحاب الحركات الأزوادية منه في فبراير 2023، وفق ما رصده معد التحقيق من خلال صور توثق الأمر، وإفادات منقبين عن الذهب، منهم أكحتي أغ محمد، الذي ترك العمل في المنجم، موضحا لـ"العربي الجديد" أن المنقبين غادروا الموقع الذي كان يحتضن 40 ألف معدّن من جنسيات مختلفة، نشطوا في استخراج الذهب قبل مغادرة المنطقة خوفا من "فاغنر".

 

من يقود من؟

تتركز عناصر مجموعة فاغنر في وسط وشمالي البلاد، وتحديدا في مدن مثل تمبكتو وغاو ومنكا وكيدال، وسفاري وجورا ونمبالا ونارا Nara، بحسب إفادتي كوني والأنصاري، ويلفتان إلى أن المجموعة تعتمد في معاركها على أسلحة روسية متقدمة، مثل المدرعات والمدفعية والطائرات المسيّرة.

ويدعم الإفادتين السابقتين تقرير صادر عن معهد أبحاث السياسة الخارجية (مؤسسة فكرية أميركية) في 18 مارس/آذار 2022، بعنوان "دليل مجموعة فاغنر في أفريقيا"، موضحا أن "حكومة مالي تسلمت في 9 يناير/كانون الثاني 2021 أربع طائرات هليكوبتر هجومية روسية من طراز MI-171 مزودة بأسلحة وذخيرة، في جزء من اتفاقية التعاون العسكري بين مالي وروسيا".

ويتمتع المقاتلون الروس بقدر كبير من الاستقلالية في اتخاذ القرار العسكري، ولديهم حرية حركة واسعة في مواجهة ما تعتبره الحكومة المالية تهديدات أمنية شمالي البلاد، بحسب ما يقوله أبوبكر الصديق ولد الطالب، عضو جبهة تحرير أزواد (حركة مسلحة تأسست في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2024) والمسؤول الإعلامي للتجمع من أجل الدفاع عن حقوق الشعب الأزوادي (مدني تأسس في أكتوبر 2024)، قائلا: "تجلى ذلك في قرار انسحاب عناصر فاغنر من منطقة تنزاواتن الواقعة شمالي البلاد قرب الحدود مع الجزائر، بعد الهزيمة التي منيت بها هناك في يوليو 2024، رغم إعلان القوات الحكومية عن استمرار العمليات والتقدم نحو منطقة تنزاواتن، أهم معقل للحركات الأزوادية بعد دحرها من كيدال، لكن انسحاب عناصر فاغنر أجبر قوات الجيش على الانسحاب".

يتمتع المقاتلون الروس باستقلالية في القرار العسكري وحرية حركة واسعة

وخسرت "فاغنر" في ذلك الهجوم 46 عنصرا بعد تعرضهم لكمين منع تقدمهم بمعية الجيش المالي إلى منطقة تنزاواتن، بحسب ما يؤكده مقطع مصور لجثث عناصر المرتزقة الروس، الذين حملتهم الحركات الأزوادية مسؤولية تصعيد المواجهات والتوترات بين الحكومة المركزية والحركات الأزوادية، ما أسفر عن إنهاء اتفاق سلام بين الطرفين في 24 يناير 2024، بحسب ولد الطالب.

 

تفاقم الأوضاع الإنسانية

فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على ثلاثة مسؤولين في الحكومة الانتقالية والجيش المالي بمن فيهم وزير الدفاع الحالي، الجنرال ساجو كامارا، لتسهيله نشر وتوسيع أنشطة شركة فاغنر في مالي، بحسب ما رصده معد التحقيق عبر الموقع الرسمي للوزارة.

ومع توسع الأنشطة، أحصت منظمة إيموهاغ الحقوقية عبر مراقبيها الميدانيين، مقتل 160 مدنيا في مناطق كيدال وتمبكتو وغاو وتودني، بينهم نساء وأطفال، خلال الفترة بين يناير 2023 ونوفمبر 2024، بحسب إفادة أيوب أغ شمد.

لكن أعداد الضحايا تفوق ما سبق بكثير، إذ أحصى تقرير هيومن رايتس ووتش الآنف ذكره، في قرية مورا بولاية موبتي وسط مالي، مقتل 500 شخص خلال عملية عسكرية استمرت خمسة أيام في مارس 2022 بمشاركة قوات الجيش وفاغنر، التي تتحمل المسؤولية عن الانتهاك الموسع لحقوق الإنسان والقوانين الدولية، بحسب إفادة المحامي المالي عثمان جالوا، الذي تصل إليه تقارير وشهادات من ولايته موبتي، حول إعدامات ميدانية واعتقالات تعسفية لمدنيين، وهذه كلها انتهاكات للمادة الثانية الواردة في الجزء الثاني من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية، الذي يتكفل بتوفير سبيل فعال للتظلم لأي شخص انتهكت حقوقه أو حرياته، حتى لو صدر الانتهاك عن أشخاص يتصرفون بصفتهم الرسمية.

لذلك يطالب الحقوقي، أيوب أغ شمد، بتحقيق دولي عاجل ومستقل لكشف الحقيقة حول هذه الجرائم المروعة ومحاسبة المسؤولين عنها، قائلا: "على المجتمع الدولي أن يتحرك لإنقاذ المدنيين في مالي ووقف الانتهاكات المتكررة التي أدت إلى تفاقم الأوضاع الإنسانية، وزادت من انعدام الثقة بين الحكومة المركزية والسكان المحليين، خاصة في المناطق الشمالية والوسطى للبلاد".

لكن هل من مستجيب؟، يتساءل محمد الأنصاري، بعدما قُتل ابن عمه إينادير حماما وابنه البالغ من العمر ثلاث سنوات وزوجته الحامل في هجوم للجيش المالي وعناصر فاغنر استهدف مركبة كانوا يستقلونها في منطقة سيغو وسط مالي نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي، قائلا: "تحقيق العدالة والقصاص ممن ينكلون بنا حلم بعيد المنال".

قراءة المقال بالكامل