الإسماعيلية – أميرة يوسف:
لم يكن صباح الخميس يومًا عاديًا في قرية جلبانة، حيث كانت الضحكات تملأ ميني باص حضانة “سيد المرسلين”، والأطفال يخططون لما سيفعلونه بعد العودة إلى المنزل، كانوا ينتظرون العيد، ويتحدثون عن الملابس الجديدة التي سيشترونها، لكنهم عادوا إلى ذويهم في الأكفان، بعدما تحولت رحلتهم اليومية إلى مأساة ستظل محفورة في ذاكرة الإسماعيلية.
في لحظة خاطفة، وقعت الكارثة. اصطدم قطار رقم 293 ركاب، القادم من القنطرة شرق باتجاه بئر العبد، بميني باص الحضانة أثناء عبوره من مزلقان غير شرعي. لم يكن هناك متسع من الوقت لأي محاولة نجاة، فالقوة الهائلة للقطار لم تترك فرصة للهرب، ليجد الأطفال أنفسهم بين الحطام، وتتناثر الحقائب الصغيرة التي كانت تحمل ألوانهم ودفاترهم المدرسية، بعدما تلطخت بدمائهم البريئة.
الحادث أسفر عن وفاة 10 أشخاص، بينهم السائق وأطفال في عمر الزهور، وإصابة آخرين، بعضهم في حالة حرجة تم نقلهم إلى مجمع الإسماعيلية الطبي لتلقي العلاج. فتحت النيابة العامة تحقيقًا موسعًا، واستجوبت المصابين الذين تسمح حالتهم بذلك، بينما أكدت هيئة السكك الحديدية أن الميني باص كان يعبر من مكان غير مخصص للعبور، في مأساة تتكرر دون حلول حاسمة.
كانت مكة عبد العزيز عاطف (6 سنوات) وآية محمد عاطف (5 سنوات) تنتظران العيد بفارغ الصبر. منذ أيام، وهما تتحدثان عن الفساتين الجديدة، تخططان للألوان التي ستختارانها، وتنتظران بفارغ الصبر يوم الجمعة، حيث وعدهما والدهما بأخذهما لشراء الملابس.
“ماما، أنا عايزة فستان وردي وعليه وردة كبيرة!”، قالتها مكة بحماس، بينما قاطعتها آية ضاحكة: “وأنا هجيب فستان أزرق زي بتاع الأميرات!”، لكن القدر كان له رأي آخر، والفساتين التي حلمن بها لم تُشترَ، بل كانت الأكفان البيضاء هي ما ارتدته الطفلتان في النهاية.
في ذلك الصباح المشؤوم، جلستا بجوار بعضهما في الميني باص، تمسك مكة يد آية كما تفعل دائمًا، وتهمس لها: “إوعي تسيبيني وإحنا في الباص”، فتبتسم آية وترد: “مش هسيبك أبدًا”، كانت كلماتهما وعدًا، لكنه أصبح مصيرًا مأساويًا جمعهما حتى اللحظة الأخيرة.
عندما وقع الحادث، تناثرت ألوانهما التي كانت تملأ دفاترهما المدرسية، وامتزجت بالدماء. الحقيبة الوردية التي كانت تحملها مكة أصبحت مغطاة بالغبار، والألوان التي كانت تحبها آية تلطخت بلون آخر لم يكن يومًا ضمن اختياراتها. كان المشهد أشبه بلوحة حزينة لطفولة انتهت قبل أن تبدأ، وأحلام تحطمت تحت عجلات القطار.
في جنازة مهيبة، اجتمعت القرية لتودع ملاكين صغيرين، عادتا إلى منزليهما في أكفان بيضاء بدلًا من ملابس العيد التي كانتا تنتظرانها. سار الأهالي خلف النعشين الصغيرين، والدموع تخنق الكلمات، بينما الأمهات يتمسكن بملابسهما الصغيرة التي لم تُلبس أبدًا.
وقف والد مكة وعيناه غارقتان في الدموع، يردد بصوت متهدج: “كانت فرحانة إنها هتشتري الفستان الجديد.. كانت بتقول لي عايزة فستان بوردة كبيرة”، بينما والدة آية لم تتوقف عن احتضان حقيبتها الصغيرة، تشتم فيها رائحة طفلتها التي لن تعود.
وسط الدموع والصرخات، لم يكن هناك سوى سؤال واحد يتردد في الأذهان: “إلى متى تستمر هذه الحوادث القاتلة؟” كم من روح بريئة ستُزهق قبل أن يتوقف النزيف؟
رحلت مكة وآية، ومعهما ياسين وأصدقاؤهم، لكن قصتهم ستبقى جرحًا مفتوحًا في قلب كل من عرفهم، وحكاية مؤلمة عن أحلام صغيرة انتهت تحت عجلات قطار لم يرحم براءتهم.
