لم يعانِ أسلافنا من أمراض الكلى والسرطانات وغيرها من أمراض العصر، لأنهم كانوا يعيشون بحال فطرة سليمة. لم يتلقوا ما تلقيناه من معارف (مُعلّبة)، ولم يعيشوا حياتنا (المُغلّفة) بقشور الحضارة البعيدة عن الفطرة. كانوا أكثر تحضُّراً منا، وأكثر إدراكاً لبيئتهم، وكيفية التعاطي مع مكوناتها. ما كانوا يتمثلون بكل جديد كما نفعل الآن ونجني الأمراض.
كنت في طفولتي شغوفاً باللعب حول سرير جدِّي الممدّد طوال اليوم، وأراقب مع أقراني "من يعاودونه وهم يديرونه"، هكذا يعبّرون عن عملية تحويله على سريره صباحاً من وسط الفناء إلى حيث ظل المبنى الشرقيّ في التحامِه مع ظل شجرة السيال العجوز، ثم يدخلونه غرفته الواسعة ريثما يستطيل الظل بعد اتكاء الشمس غرباً.
كان يسعدني أن يطلب مني أن أناوله جرّة الفخار الصغيرة، أحملها بعناية كما علّموني من تحت الجرة الكبيرة (الزير)، وأزيل عن فمها قطعة القماش القطنية النظيفة، التي تسمح بنزول قطرات الماء باردةً نقيةً من (النقّاع)، وأراقبه يعُب الماء من دون اكتراثٍ لما يسيل على صدره، ودون الحاجة إلى إناء وسيط.
رحل جدي بعد أن تخطّى المئة عام بما يزيد على عشر سنوات كما يقول الكبار، ولم نرَ على المنضدة في جواره أي نوع من العقاقير الطبية، بل حبّات من ثمر السنط (القرض)، وعدد من أواني الفخار الصغيرة، ويسمى الواحد منها (كنتوش)، مليئة بخلطات أعشاب يعرف هو والكبار أسرارها. ولم أدرك السرَّ إلا بعد أن عشت نصف عمر جدي، وقد تكدّست بجانبي عبوات العقاقير المختلفة.
أثبتت الدراسات أن وضع الماء في أوانٍ فخارية يُحييه، ويعيد له طاقته العجيبة وحيويته، بعد تعرّضه لضغط الأنابيب، أو الأواني الناقلة، لأن الفخار أقرب مادة لجسم الإنسان. وعندما نشرب الماء من جرة الفخّار، فهذا يعني أننا نشرب ماءً (قلوياً)، وهذا ما يجعل دمنا قادراً على منع نمو السرطان، ذلك لأن الخلايا السرطانية لا تنقسم في وسطٍ قَلَوِيّ، وأضافت دراسة نشرتها مجلة أبحاث الماء (ووتر ريسيرش) عام 2016 أن شحنة الفخّار سالبة، مثلها مثل شحنة الأرض، وهي قادرة على قتل الأجسام الدقيقة الضارة التي في الماء، ما يعني أن الفخّار ينقّي الماء من الشوائب البيولوجية، لأن شحنة معظم الكائنات الدقيقة الضارة هي شحنات موجبة.
لا يتفاعل الفخار مع الأطعمة مثل ما تفعل أواني الألومنيوم والمعادن الأخرى، ما يجعله آمناً وصحياً لحفظ السوائل والأطعمة والطهي، إذ يحافظ على القيمة الغذائية، ويستغرق عند الطهي وقتاً أقل على النار، مما يساعد في الاحتفاظ بالفيتامينات والمعادن الموجودة في الطعام.
ربما كان للأمر علاقة بخلق الإنسان من طين، وليس لأن أسلافنا حينَ يحفظون الماء والزيت والقدّيد في خابيات الفخّار، كانوا بلا قدرةٍ على اقتناء أوانٍ من خارج بيئتهم.
