تتلمس المسنّة الفلسطينية أم خالد القصاص رؤوس أحفادها، بعد أن غادرهم والدهم معتز شهيداً جراء قصف إسرائيلي لـ"تكتك" كان يعمل عليه خلال العدوان الإسرائيلي الوحشي، لتوفير قوت أطفاله الذين باتوا مثل عشرات الآلاف بلا معيل يعينهم على توفير أدنى احتياجاتهم اليومية. وتقف كثير من النساء في أحياء غزة المكتظة بالسكان والدمار أمام تحديات لم تكن في الحسبان، إذ يصبحن المعيلات الوحيدات لأسرهن، بعد أن فقدن أزواجهن خلال الحرب، فيما تتوزع طاقتهن بين حزن الفقد والمسؤولية الثقيلة الملقاة على عاتقهن ومحاولات البقاء والاستمرار.
وإلى جانب التحديات الاقتصادية، تواجه النساء صراعاً نفسياً مرهقاً، بسبب فقدانهن أزواجهن أو أبناءهن المسؤولين بشكل مباشر عن توفير متطلباتهن ومتطلبات عوائلهن، وتركهن في مواجهة واقع لا يمنحهن الوقت الكافي للحزن. وتتزامن الأزمات المعقدة والمركبة، التي تواجه النساء اللواتي فقدن معيل أسرهن مع عودة العدوان الإسرائيلي من جديد بعد نحو شهرين من توقّفه، مع واقع اقتصادي صعب أفرزته الحرب الإسرائيلية وآثارها الكارثية الممتدة، خاصة في ظل شح المساعدات الإنسانية والغلاء في أسعار البضائع والتي باتت غير متوفرة بالحد المطلوب، وتدمير البنية التحتية وانعدام الخدمات الأساسية.
وتتنقل العديد من النساء الأرامل بين المؤسسات الخيرية للحصول على ما يسد رمق أطفالهن ويخفف من أعبائهن الثقيلة، إلا أن تعقيدات التسجيل وشكوى العديد منهن من عدم وجود عدالة في توزيع المساعدات الإنسانية يدفعهن إلى العمل لسد رمق أطفالهن. وتوضح أم خالد، التي تعاني من مرض السكري وتشكو من عدم توفر الدواء، أن نجلها الشهيد كان في مصر منذ خمس سنوات، وقد طلبت منه العودة لإتمام دراسة أطفاله في المرحلة الابتدائية، وشجعها على طلبها بدء إصدار تصاريح للعمل في الداخل المحتل.
وتقول لـ"العربي الجديد" إن ابنها عاد إلى غزة قبل بدء الحرب بشهرين، وبدأ بإجراءات استصدار تصريح عمل، إلا أن العدوان بدأ قبل صدور التصريح بيومين، وتقول "اضطررنا للنزوح نحو المحافظات الجنوبية، وكان ابني معتز برفقتنا، وقد بدأ بالعمل على تكتك لتوفير المتطلبات الأساسية".
واتجه معتز يوم استشهاده لنقل كمية من التمر بالقرب من دوار بني سهيلا في مدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة من دون اصطحاب هاتفه، وقد اختفت آثاره لمدة ثلاثة أيام، إلى أن أخبرها شخص باستشهاده، وقد اصطحب معه هوية ابنها وقد تلطخت بدمائه.
وتبدأ يوميات السيدات الفلسطينيات اللواتي فقدن معيلهن مبكراً في قطاع غزة، حيث يذهبن للاصطفاف في طوابير طويلة للحصول على طعام التكايا الخيرية أو الخبز، أو للتسجيل في برامج المساعدات المالية والإغاثية، فيما تتجه أخريات للخياطة أو صناعة الخبز وتجهيز الوجبات المنزلية لبيعها في الأسواق.
وتوضح الفلسطينية خديجة عيد، وهي ربة منزل وأم لأربعة أطفال، أنها تعرضت لصدمة حقيقية غيرت مجرى حياتها، بعد استشهاد زوجها محمد، بعد إصابته بعدة شظايا قاتلة بفعل قصف منزل مجاور، حيث باتت أسرتها بلا معيل.
وتلفت خديجة لـ"العربي الجديد" إلى خسارة زوجها مصدر رزقه في بداية الحرب نتيجة تدمير متجره الخاص ببيع المواد الغذائية، ومحاولاته المتكررة لتوفير مصدر دخل بديل عبر العمل في العديد من المهن البسيطة والمؤقتة، إلى أن استشهد ولم يعد للأسرة أي مصدر رزق.
غياب المعيل الأساسي لأسرتها وانقطاع الأمل من المؤسسات المعنية برعاية الأطفال الأيتام دفعاها إلى بيع بعض المساعدات الغذائية لتوفير متطلبات أخرى، إلى جانب صناعة الخبز وبيعه لجاراتها أو في السوق، لتوفير ما يلزم أسرتها من احتياجات ضرورية، وفق السيدة الفلسطينية. وتقول: "لم أعمل يوما في حياتي، لكني فجأة وجدت نفسي المسؤولة الوحيدة عن أربعة أطفال. في البداية، كنت أعيش على المساعدات، لكنها لم تكن كفيلة بتوفير احتياجاتنا اليومية، الأمر ليس سهلا، فأنا أستيقظ قبل الفجر لإنجاز كل المهام المطلوبة".
ولم يكن للفلسطينية رفقة محمد علي، وهي أم لثلاثة أولاد وابنتين، أي مصدر دخل بعد استشهاد زوجها خلال الحرب، ما دفعها إلى بيع بعض المساعدات الغذائية التي حصلت عليها من مخيم اللجوء في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة لشراء سلع أكثر أهمية بالنسبة لأسرتها.
وتبين لـ"العربي الجديد" أن مساعدة أولادها لها دفعها إلى عدم الاكتفاء بمقايضة البضائع بالطعام اليومي، وإنما بتوفير جزء منها لبيعه وشراء أصناف أخرى وبيعها داخل مدرسة نزوح قريبة، وتقول "بتنا نأكل من هامش الربح اليومي البسيط". وتشير إلى أنها تعاني من الإرهاق الشديد جراء صعوبة المواءمة بين دورها كأم وأب في ذات الوقت، قائلة: "جربت البحث عن مؤسسة لدعمي بالمال لكنني لم أجد، ما اضطرني إلى العمل المرهق بدلا من الاعتماد على أحد".
أما الفلسطينية ابتهال عمر، وكانت تعمل معلمة في مدرسة خاصة، فتوضح أنها فقدت عملها منذ بدء الحرب، وقد شعرت بتوقف حياتها لحظة استشهاد زوجها مطلع عام 2024، إلا أنها استجمعت قواها لمواصلة المهمة في تربية طفليها حسام ورهف بعد أن فقدوا معيلهم الأساسي.
وتوضح ابتهال لـ"العربي الجديد" أنها كانت تساعد زوجها على الإيفاء بمتطلبات البيت قبل الحرب، إلا أن العدوان الإسرائيلي أفقدها زوجها وبيتها ومصادر دخلهم، وتركها تواجه صعوبات توفير المتطلبات الأساسية لأطفالها في بداية حياتهم.
وتلفت إلى أنها تقوم بإعطاء دروس للأطفال بمقابل مادي رمزي، وذلك لمساعدتهم في التخفيف من آثار الانهيار التام للنظام التعليمي، وتوفير مصدر دخل متواضع يعينها على قضاء حوائج أسرتها الصغيرة.
ولم تحصل ابتهال منذ استشهاد زوجها سوى على الدعم المعنوي، باستثناء بعض المساعدات الإنسانية البسيطة والتي لا يمكنها سد كل الاحتياجات اليومية والمتزايدة، خاصة في ظل حالة الغلاء الشديد. وتضيف "أشعر أن النساء الأرامل يتركن ليواجهن مصيرهن وحدهن، بعض المؤسسات تساعد، لكن الدعم ليس منتظما، لذلك يجب أن نجد حلولا بأنفسنا بهدف توفير قوت أطفالنا بدلا من مد يد العوز".
وتوافقها الرأي الفلسطينية ريم الصفدي، والتي استشهد زوجها فادي خلال الاجتياح الإسرائيلي الثاني لمجمع الشفاء الطبي، حيث لم تجد معيناً لها بعد أن فقدت المعيل الوحيد لأسرتها، بخلاف بعض المساعدات الإنسانية الخجولة.
وتقول ريم لـ"العربي الجديد" إنه وعلى الرغم من بساطة راتب زوجها الذي كان يعمل في شركة لبيع وتوزيع الحلويات، إلا أنه كان يسد المتطلبات الضرورية، "توقف عمل زوجي بداية الحرب، ما دفعه إلى العمل مرافقا لسائق شاحنة نقل بضائع ومساعدات حتى لحظة استشهاده".
وتبين أنها باعت مؤخرا آخر قطعة ذهب كانت معها لتوفير متطلبات أسرتها، وقد اعتمدت برفقة زوجها على مدخراتها من الذهب منذ بداية الحرب، للتغلب على الغلاء الشديد الذي طاول كل شيء. وتحاول ريم جاهدة التسجيل للتطوع أو العمل مع المؤسسات الدولية أو المطابخ وتكايا الطعام الممولة، وتقول "أجيد الطبخ وقد حصلت على العديد من الدورات في السابق.. التحاقي بالعمل والحصول على راتب محدد سيمكنني من تخفيف أزمات أسرتي".
وتشير التقديرات إلى أن العدوان على غزة ضاعف نسب الفقر لتصل إلى 100%، وتخطت نسب البطالة حاجز الـ80%. وكان المتحدث باسم الصليب الأحمر في غزة، هشام مهنا، قد قال قبل أيام، إن مئات الآلاف من الأسر في غزة باتت تحت خط الفقر. وأضاف: "لا نريد أن يفقد الناس حياتهم بسبب عدم توفر الغذاء، ونريد أن نرى استجابة إنسانية مستقرة حتى يحدث التغيير المطلوب".
