تتواصل وقائع الأزمة بين الجزائر وفرنسا، وباتت متعدّدة الجوانب والأبعاد، فيما أضحى يشبه التوجّه نحو القطيعة إذا لم يتم تحديد المسؤوليات وإخضاع الملفّات الخلافية من الجانب الفرنسي لفعلٍ سياسيٍّ رصين، ومنها (بصفة خاصّة) الخطاب السياسي والإعلامي، الذي ترتفع وتيرته، وتُرك على عواهنه لفاعلين يؤجّجون العلاقة، ويرفعون الصّوت بادّعاءاتٍ وإشاراتٍ لا يمكن الاّ أن تزيد الوضع سوءاً، ولذلك احتجنا إلى تحليل الخطاب الفرنسي لتحديد مضامينه ومراميه، بقصد فهم الأهداف الحقيقة المعلنة والخفية وراء هذا التهجّم الكبير على الجزائر، في هذا الوقت.
لا يمكن لدولة بحجم فرنسا أن تشاهد ذلك التّخبُّط الذي أضحت عليه سياستها في الساحل وفي شمال أفريقيا، وفي الجزائر، بالذّات، من دون أن تكون ردّات فعلها مجهّزةً بإحكام، ذلك أنّها دولة كبيرة، ومصالحها معقّدة يقوم أكثر من فاعل بالاعتناء فيها، من رئاسة ووزارة خارجية ومخابرات، وصولاً إلى جماعات ضغطٍ وفاعلين سرّيين أو غير رسميين، تحرّكهم تلك الجهات الرّسمية، بصفة خاصّة، عند الحاجة أو تومئ لهم بخطابٍ محدّدٍ تكون شبيهة بالرسائل التي لا يريد الفاعلون الرسميون تحمّلها، فيوعزون لأمثال السفير السابق، كزافيي درايانكور، بتمريرها عبر الحصص الإعلامية أو التقارير، بل والكتب أيضاً.
تعمل المقالة على تحليل الخطاب الفرنسي في الآونة الفائتة، بما يمكن التّأكيد من خلاله (بصفةٍ تكاد تكون جازمة) أنّ الانزال الإعلامي الذي أعقب خطاب الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أمام الجهاز الديبلوماسي الفرنسي، في بداية العام الجاري، لم يكن إلا لتحميل عبارات الرئيس تلك الرسائل المشفّرة التي اعتاد السياسيون استخدامها، عندما تكون الاتصالات صعبة أو شبه متوقّفة، وهي الحالة الحالية التي عليها العلاقات الجزائرية الفرنسية في الأشهر الماضية، بعد اعتراف فرنسا بمغربية الصّحراء الغربية، إضافة إلى التلاعب الرسمي الفرنسي بالمصالح الجزائرية على أكثر من صعيد، سواء تعلّق ذلك بملفّ الذاكرة، أو مراجعة اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، أو عملها على التدخّل في الشأن الداخلي الجزائري من خلال ما سُمّي، في مقالة سابقة للكاتب ("العربي الجديد"، 29/2/2024) بـ"كتّاب في مهمّة"، وفي مقدمتهم الثُّنائي المثير للجدل كمال داوود وبوعلّام صنصال.
ننطلق من خطاب ماكرون الموجّه إلى الجهاز الديبلوماسي الفرنسي، جاء فيه أن فرنسا لم تخرُج من الساحل مطرودةً، بل بتخطيط مشترك مع الدول الساحلية لإعادة الانتشار بما يناسب الأوضاع الجديدة التي ترتبّت على الانقلابات التي شهدتها منطقة الساحل (مالي والنيجر وبوركينا فاسو)، إضافة إلى ذكر بعض الحقائق بنبرةٍ فوقيةٍ حاول فيها الرئيس الفرنسي، ماكرون، تذكير الأفارقة بأفضال فرنسا عليهم، وعلى استقرارهم، وبأنها هي من حاربت الإرهاب بتدخّلاتها وعملياتها المختلفة، من دون أن يقول لها الأفارقة الساحليون شكراً على ذلك العمل. في الخطاب نفسه،، عرّج ماكرون على الخلاف الجزائري الفرنسي، وكانت له عبارات غير مقبولة، وصف فيها الجزائر بأنها تقوم بأفعال لا تتناسب وصورتها، مشيراً إلى قضية الكاتب الموقوف في الجزائر، بوعلام صنصال، واصفاً وضعه بالمقلق، وبأنّ توقيفه مجرّد قضية حرّية تعبير لا تقبل بها الجزائر. وبما أنّ الخطاب أشار الى الجزائر، فإن ما لم يقله الرّئيس الفرنسي كلّف وزير الداخلية والخارجية بإكماله، من خلال مشاركتين إذاعيتَين، جاءت فيهما الإشارة إلى ملفّات خلافية وموقف فرنسا منها، وفي مقدمها قضايا الهجرة غير الشرعية، والمؤثّرين الجزائريين الموقوفين في فرنسا، إلى جانب قضيّة صنصال، وإجبارية مراجعة اتفاقية الهجرة للعام 1968، الموقّعة بين البلدَين، التي (وفق الفرنسيين) تعطي الأفضلية في بعض المزايا للجزائريين دون غيرهم من مهاجري العالم، بالرغم من أنّها خضعت للمراجعة ثلاث مرّات، وأُفرغت من مضامينها، وبالأخصّ ادّعاء المعاملة التفضيلية للجزائريين في مسائل محدّدة (لمّ الشمل العائلي والإقامة والعمل).
تتحوّل الحياة السياسية في فرنسا إلى اليمين المتطرّف، فاتحةً الباب لاحتمال وصول اليمين المتطرّف إلى سدّة الرئاسة في 2027
وجاء الإنزال الإعلامي الأهم في لقاء تلفزيوني في قناة إخبارية لرجل الأعمال بولوري، قناة يمينية بامتياز كان المتحدّث فيها هو السفير الفرنسي السابق، كزافيي درايانكور، الذي لا يقدح من رأسه باعتبار تذكير الصحافية المحاورة له لجملة المناصب الرسمية التي تقلّدها قبل تقاعده، في وزارة الخارجية وفي سفارات بلده في الخارج، وبالأخص مرّتَين في الجزائر في عهد الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، وفي بدايات العهدة الأولى للرئيس عبد المجيد تبّون، من دون إغفال التعريج على كتابه الذي يُعدّ مرجعاً (وفق الفرنسيين) في فهم مداخل الفعل السياسي داخل أروقة النظام السياسي الجزائري، الحامل عنواناً بارزاً هو "اللغز الجزائري". بدأ الحديث بسؤال الصحافية للسفير السابق عن طبيعة العلاقة التي تربط المؤثّرين الجزائريين المعتقلين (بداية العام الجاري) مع السلطة في الجزائر، بتهم التحريض على التعامل بصلابة مع المعارضين للنظام الجزائري، ليجيب السفير درايانكور بأن لا دليل على علاقة (حتماً) بين الجزائر وهؤلاء المؤثّرين، مشيراً بعد ذلك إلى أن التعامل مع هؤلاء سيكون المؤشّر على مدى التدهور الذي أصاب العلاقات الجزائرية الفرنسية، مع ربطه بشكل مباشر بين الإجراء الفرنسي واعتقال الجزائر للكاتب الفرانكو جزائري، بوعلام صنصال، وهو ما يبرز مدى التناقض الذي وقع فيه السفير السابق، لأن اعتقال المؤثّرين، بالرغم من أنه ملفّ حقوقي، لكنّه جاء بخلفيةٍ سياسية من الجانب الفرنسي، في حين أن اعتقال صنصال جاء لأسباب منطقية، لأنّه خالف القوانين الجزائرية فيما يخصُّ المساس بالوحدة التُّرابية، إضافة إلى تصريحات إعلامية للكاتب، احتقر فيها البلد الذي يحمل جواز سفره ويقطن فيه، بل كان إطاراً سامياً في إحدى وزاراتها لأعوام.
عرّج السفير السابق، درايانكور، في حديثه عن ملفّات فرنسية يريد الإشارة من خلالها إلى أنها ملفّات ضغط على الجزائر، على غرار ملفّ التأشيرات، واتفاقية الهجرة للعام 1968، إضافة إلى ملفٍّ أثاره، وهو الملفّ المتّصل بأملاك العصابة في فرنسا، أو ما يُعرف بملفّ "الأملاك المكتسبة بطريق الفساد والسرقة" (Biens mal acquis)، وكأنّه يومئ إلى عزم الفرنسيين رسمياً على تعطيل معالجة الملفّ، وعدم مساعدة الجزائر على استعادة تلك الأموال المنهوبة، إمّا المنقولة أو غير المنقولة، المقدّرة بمئات الملايين من اليوروهات. طبعاً، لم يكن لينتهي اللّقاء من دون الحديث عن تهمة ريع الذاكرة التي ما فتئ اليمين المتطرّف والخطاب الرسمي (كلاهما) في فرنسا يُركّز عليهما لوصف ما يعتبرونه تعنّتاً جزائرياً في جعل ملفّ الذاكرة محورياً في العلاقات الثنائية الجزائرية الفرنسية، تقدّماً وتوتّراً، وهو الملفّ الذي تماطل فيه فرنسا ولكن (وفق درايانكور) الجميع في فرنسا، من الرئيس الى الأحزاب والطبقة السياسية، مروراً بالكتّاب والإعلاميين، مجمعون على أن الملفّ مغلق (أي باريس قامت بما عليها القيام به) بإعلان موريس أودان ضحيةً للتعذيب من الدولة الفرنسية أو الإعلان عن مسؤولية فرنسا عن مقتل المحامي علي بومنجل، إضافة إلى بعض الحركيات الرمزية من إرجاع بعض الأرشيف، أو الحديث الذي أضحى يتقدّم شيئاً ما في ملفّ جريمة 17 أكتوبر/ تشرين الأول 1961، والقتل المتعمّد لمئات، بل لآلاف من الجزائريين في باريس ورمي جثثهم في نهر السين، بأوامر من السفّاح بابون، محافظ شرطة باريس آنذاك، في عهد الجنرال ديغول.
من المرشّح أن تتمدّد الخلافات بشأن الجزائر، وتبقى في محور الصراع السياسي الفرنسي الداخلي في سياق الرئاسيات المقبلة
بتحليل خطاب الرئيس الفرنسي المشار إليه، وأحاديثه السابقة بشأن الجزائر، أو الحديث الذي أدلى به درايانكور للقناة الإخبارية المملوكة لرجل الأعمال اليميني المتطرّف بولوري، جاءت أربع عبارات متكرّرة، وكأنّما هناك "سكريبت" قرأ منه الرئيس، وأجاب من خلاله السفير السابق، وهي عباراتٌ كرّرها أيضاً وزير الخارجية الفرنسي، وتحدّث بشأنها وزير الداخلية أيضاً، وهي عبارات التأشيرات وملفّ الهجرة والذاكرة وصنصال، مشكّلةً (بطريقة أخرى) الملفات الخلافية بين البلدَين، أو التي تريد فرنسا الضغط من خلالها أو حصرها في أيّ مفاوضات لاحقة بين البلدَين قد تجرّ (وفق الحديث المشار إليه للسفير السابق)، حديثاً حول الساحل وطيّ ملفّ الذاكرة ومطالبات الجزائر والمرور إلى اتفاقية الهجرة للعام 1968، في مقابل ملفّ طلب الجزائر مراجعة اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، الذي ستكون الشركات الفرنسية أولى ضحاياه، باعتبار أنها من أكبر المستفيدين من تلك الاتفاقية والخسائر المعتبرة التي تكبّدها الاقتصاد الجزائري من جرّاء ذلك كلّه.
قد يكون هذا الموقف من فرنسا، ليس لألمعية صنصال، ولا لحيوية الملفّات الأخرى، بالرغم من أهمّيتها بالنسبة للبلدَين، بل وفق معطيات ومؤشّرات للتغطية وللإلهاء عن المسار السياسي، الذي أضحى محورياً في الحياة السياسية الفرنسية، التي تتحوّل حتماً إلى اليمين المتطرّف، فاتحةً الباب واسعاً لاحتمال وصول اليمين المتطرّف إلى سدّة الرئاسة في رئاسيات 2027، في شخص مارين لوبان... ذلك أنّ الموضوع الجزائري (وفق درايانكور) هو دائماً موضوعٌ داخليٌ إلى جانب أنه ملفّ للسياسة الخارجية الفرنسية، باعتبار أن 10% من سكّان فرنسا لهم صلة بالجزائر، إمّا مهاجرين (حوالي ستّة إلى سبعة ملايين مهاجر)، أو مجنّسين أو أصحاب صلة تاريخية بالجزائر، ممّا يرشّح الخلافات للتمدّد والبقاء في محور الصراع السياسي الفرنسي الداخلي في العامَين القادمَين في سياق الرئاسيات المقبلة.
يلاحظ، في المقال تكرار عبارة السفير السابق، ذلك أن درايانكور وتحرّكاته، ومحوريته في الحديث عن الجزائر، بنبرة تتصيّد الخلافات، بل تصنعها، وتقف وراء ترويجها وتضخيمها، هو سفير في مهمّة غير رسمية إلى جانب صنصال، الكاتب في مهمّة.
