في تنافس مطابخ حلب ودمشق على السياسة والنفوذ

منذ ٢ شهور ٧٣

كثيرا ما يُسمع عن التنافس بين الجارتين حماة وحمص على حلاوة الجبن، وهو تنافس مشروع، لكن لا أحد من الطرفين يعلّل "موقفه"، سواء بدعمه بأدلة تاريخية أو بأدلة تعتمد على الطعم والمذاق. قد ينطبق الحال على كل توأمين، كما الحال بين منسفي السويداء ودرعا مع مراعاة عدم حدّية التنافس، رغم وجود تقاطعات وتداخلات ديمغرافية ومشتركات كثيرة تفرضها البيئة الجغرافية.

لكن ما هو لافت ما يحصل من تسابق بين مدينتي حلب ودمشق، فواحدة ذهبت بالثقل السياسي فكانت هي العاصمة، حيث تَؤمُّها الوفود الدبلوماسية ويقطنها أصحاب القرار والهيبة. والأخرى (حلب) تفردت بالتجارة، وذهبت إلى الاستئثار بالثقل الاقتصادي، وهذا من أهم دعائم السياسة وروافعها.

إذن، ثمّة سباق بينهما نحو القوة والنفوذ، قوة اقتصادية وأخرى سياسية، بيد أنه لا يجري الجهر به، كما التنافس بشأن حلاوة الجبن. والسؤال هنا ما إذا كان هذا السباق مشروعاً يأخذ إلى حالة تكاملية أم أنه يورث التخاصم والتزاحم، فحينما ننظر إلى الثقل التاريخي وما تحمله المدينتان من بعد تاريخي وحضاري، ستدهش لوجود توازن بينهما، إذ لا غلبة لإحداهما على الأخرى. قد نرغب بإرجاع الأمر إلى المواريث التاريخية، فنجد عند كلتيهما المسجد الأموي، والأسواق العثمانية المسقوفة، ومحطّات السكك الحديدية العثمانية والتكايا والزوايا والطرق الصوفية، ومجالس العلماء القديمة، وتجد لهما تاريخاً عميقاً في الحواضر السياسية لدويلات تشكلت وانتهت في حقبة ما، لكن دمشق تنفرد بأنها كانت عاصمة للأمويين، تلك الدولة التي تحمل الكثير من الرمزية الدينية والسياسية في عالمنا الإسلامي. وهنا لا يمكن إغفال ما لحلب من أهمية سياسية في الدولتين السلجوقية والحمدانية، فإن حدّثتك نفسُك بإمكانية التفاضل بينهما على أساس غنى المأكولات وجودة المطبخ، فإنك تُفاجأ بحجم التقارب والمشتركات في كثير من المأكولات بين مطبخي المدينتين، إذ لا يمكنك أن تعلي من شأن محاشي حلب على حساب محاشي دمشق، وكذلك الأمر بالنسبة للكبب بأنواعها، رغم أنك قد تسمع أن أهل حلب يذهبون إلى إدانة المطبخ الشامي، بإقحام الكمّون أو الكزبرة الخضراء في موائدهم وأطعمتهم. في حين أن السرد في التجارة يأخذنا إلى نتائج متشابهة، لكنك قد تجد تفاضلا بقطاع ما لحلب على حساب دمشق أو العكس. أما ما هو الأهم فأنّ الموقع الجغرافي لكلتيهما قد يُكسب كل واحدة منهما أهمية لن تقدّم إحداهما على الأخرى. فلدى تركيا بعد سياسي وتاريخي ومجتمعي في حلب، فموقع المدينة الجغرافي قد يُكسبها الكثير من الاهتمام من الجارة التركية، فحلب قريبة من مدينة غازي عنتاب، حيث نجد التشابه في العقلية الاستثمارية والتجارية، وكذلك في نقاطٍ كثيرة، سواء المظهر العمراني للأبنية التاريخية أو الأسواق، وكذلك في الموائد وأنواع الطبخ والاعتماد على اللحوم بشكل كبير.

لا ضير لحلب ودمشق من أن تذهبا إلى تصفير المشكلات

هذا ما يُكسب حلب اهتماما تركيا ملحوظا، وسيجعلها وجهة الأتراك للاستثمار والتجارة والسياحة على حساب دمشق، وقد يُكسب أهلها موقعا سياسيا متقدّما على أهالي دمشق لدى إدارة البلاد، لأن ثمّة حالة من التماهي بين إدلب وحلب، والجميع يعرف ما تمتلكه إدلب من حظوظ لدى الإدارة الجديدة، ولدى القائمين على مواقع السلطة، بعد أن أقاموا في إدلب نحو 14 عاماً، واحتضنت إدلب الثورة وأهلها ومقاتليها طوال السنوات الماضية، ودفعت فاتورة دم عالية في ذلك.

أما دمشق التي تقترب من محيطها العربي أكثر، وهي بوابة سورية إلى الأردن والخليج، وكذلك قربها من بيروت، فهذا يكسبها بعدا جيوسياسيا متمايزاً عن حلب، فلديها حظوظ أعلى من حلب في نسج خيوط إقليمية من العلاقات السياسية والاقتصادية، وتمتلك القدرة على التحرّك بانسيابية أكثر من غيرها في المحيط العربي، ولها أهمية عند الشعوب العربية ومجتمعاتها، ما يجعلها محط جذب سياسي وسياحي، ناهيك عما تمتلكه من غنىً كبير في الأماكن التاريخية والمعالم السياحية والرموز الدينية.

ربما يفتح هذا الأمر الباب على التنافس الخفي غير المعلن بين العالم العربي وتركيا حول حواضر سورية، وقد لا يصير مستبعداً أن يصل التنافس إلى التخاصم والتناطح في بعض الأوقات، رغم أن الفوارق بسيطة بين الفريقين، كما هو الفرق بين محشيٍّ بكمّون دمشقي ومحشي حلبي بدون كمّون، فهل يدرك الفريقان أن سورية ومدنها ليست تركة رجل مريض طيّعة للتقاسم، وأن أهلها تعبوا من التقاسم والمحاصصة، وأن الجميع يريد إشراك الجميع، وقد تعبت الناس من الاختلاف وافتعال المشكلات، وبات الجميع يرغب في تصفير المشكلات، والعمل على إنماء البلد بمشاريع استثمارية نهضوية، وضرورة أن يساند الجيران العرب وتركيا سورية الجريحة في لملمة الجروح لتتعافى، لا سيما في ملفات الإعمار وإعادة البناء وتخديم المجتمع بما يحتاجه من ماء وكهرباء واتصالات وإنترنت وغيرها. فلا ضير لحلب ودمشق من أن تذهبا إلى تصفير المشكلات وعدم إثارة نعرات صبيانية حول الكبّة المشوية، لن يغير وجود نعناع من عدمه، وكذلك الدهن والشحم، طالما أن الكبتين، الشامية والحلبية، يغلفهما البرغل واللحم.

قراءة المقال بالكامل