كانت رايات العبّاسيين سوداً، عندما أقاموا دولتهم، وعندما أعملوا في أسلافهم الأمويين تذبيحاً وتقتيلاً، ليس فقط من أهل السلطة التي تمرّدوا عليها وأسقطوها، وإنما في كل ناس بني أميّة، فقد فتّشوا عنهم في منازلهم ومخابئهم. لمّا سقطت دمشق في أيديهم اقترفوا مجازر متتابعة فيهم، ولعل في تلقيب أول خلفائهم، والذي تسلّم الدولة في عمر السادسة والعشرين، بأنه أبو العبّاس السفّاح، شاهداً على مجرى الدم الغزير الذي افتَتحت به الدولة الجديدة قيامتها، وقد طاردت فلولَ الأمويين في الشام وفلسطين ومصر و"أمصار" أخرى، وكان الأمر أن لا يُترَك أُمويٌّ حيّاً ولو تعلّق بأستار الكعبة. وكانت معجزةً نجاة عبد الرحمن بن معاوية بن هشام (الداخل) وهربه إلى الأندلس، حيث أرسى هناك دولةً قويةً ممتدّة. وأختار لك، قارئ هذه السطور، أن تُطالع النصّ السردي لمسلسل "صقر قريش" (2002)، في رواية كاتبه السيناريست وليد سيف، بجزئيْها "الرايات السود" و"النار والعنقاء"، ولك أن تُعيد مشاهدة العمل الدرامي الجذّاب، ولكن جثثاً كثيرةً ستترامى قدّامك، وتُقلق نومَك وتُتعبك. ... ولكن، مهلاً، ليس العبّاسيون وحدَهم من قارفوا ارتكاباتٍ قبليةً وطائفيةً مروّعةً في من عدّوهم خصوماً لهم، فقد فعلَ هذا وغيرَه مثلُهم في أطوارٍ أخرى في التاريخ الإسلامي الذي لو أبحرتَ في قراءته قد تخلُص إلى أن القتل الكثيفَ ظلّ مفتتح الانتقال من سلطةٍ إلى أخرى، بل طاول العنفُ جثث الموتى، ومن ذلك أن قبور قادةٍ وخلفاء أمويين نبشها العبّاسيون، ولمّا وجدوا واحدة منها سويّةً بعض الشيء، ضربوها بالسياط وأحرقوها.
ليس يُؤتى على ذلك المثال العبّاسي المريع، وليس يُشار إلى متوالية دمٍ كثيرٍ في حروب الفتك والنهب الأهلية في التاريخ الإسلامي، للقول إن ثمّة ما يُشابهها في تواريخ الأمم من كراهيّاتٍ أشعلت حروباً أهلية، كما في أوروبا التي قضى 12 مليوناً من أبنائها في حروب الكاثوليك والبروتستانت في 30 عاماً، وإنما يُؤتى على هذا كله، بإيجاز (وكل إيجازٍ مخلٌّ)، للعبور إلى أن المذبحة الطائفية، في الساحل السوري، أخيراً، ومعها حالة الخوف الثقيلة الباقية هناك، موصولةٌ بإرثٍ عربيٍّ مديدٍ في تاريخ المسلمين، وبغرائز الكراهيّات التي تتعمّد بشهوة الانتقام والثأر، العمياء بداهةً عندما يُقتّلُ ناسٌ مدنيون أبرياء، بينهم أطفالٌ ونساء، كما وقع في أرياف جبلة وبانياس وطرطوس، الكراهيّاتُ التي يرى المقيمون فيها أنفسَهم حُماة طائفة أو دين، وينظرون إلى الأغيار جماعاتٍ لها عنوانٌ مذهبيٌّ ولا شيء غيره. والحادثُ لدى "جهاديين"، سوريين ومستورَدين، أنهم "يتخيّلون" هذا، إذا ما استعنّا بما ذهب إليه عزمي بشارة في تشخيص "الطائفة"، عندما ترى جماعةٌ هويّتها في دينٍ أو مذهبٍ تنتمي إليه، من دون أن يكون التديّن شرطاً في هذا الاعتبار. وعندما يشرح بشارة في كتابه المخصوص "الطائفة... الطائفيّة... الطوائف المتخيّلة" (2018)، يلحّ على البحث في الظروف السياسية والاجتماعية التي تجعل هذه المجموعة أو تلك تعرّف نفسها، أولا، على أساس الاشتراك في العقيدة أو المذهب. ما يُجيز لنا القول، الصحيح على الأرجح، إن بحث السوريين الراهن عن "سلم أهلي" يعودُ إلى نقصانه بين ظهرانيهم، ليس لأنّ صفة هؤلاء أنهم سنّة أو صفة أولئك أنهم علويون، وإنما إلى أن ممارساتٍ فوقية (سلطوية) أنتجت ظروفا سياسية واجتماعية جعلت هذا التعيين مُشهراً، وتنبني عليه اعتباراتٌ وظلال، فصارت المظلوميّات إيّاها، وتفشّت التعميمات البائسة، والمتجذّرة ربما، عن السنّة أصبحوا حاكمين في سورية بعد أن كان العلويون أهل الحكم. ومع ضعف شعور السوريِّ بانتسابه إلى دولةٍ لكل مواطنيها ذاع هذا الخطاب، المجوّف في جوهره، والصحيح في بعض حوافّه، وأصبح أرضيةً لتفسير كل أداءٍ سياسيٍّ أو إجراءٍ أمني. وبقدر ما تصلُح هذه العين المجهرية لرؤية هذا الحال في سورية، فإنها كانت تصلُح لرؤية حالٍ غير مشابهٍ في العراق.
مؤدّى القول أن الحاجة شديدة الإلحاح والوجوب إلى أن يشفى العرب من أمراضٍ تسبّبت بها سلطاتٌ ظالمة، لم تُقم العدالة الاجتماعية ولا المواطنة الحقة ... أما عن الكيفيّات التي تأخذهم إلى هذا الشفاء، فوحدها أدمغة أهل الفكر وأهل الحكم العاقل أدرى بها، وليس قارئ روايةٍ لوليد سيف بعد مشاهدتها مسلسلاً تلفزيونيّاً.
