الحرب الطائفية في السودان تُشكّل أساس حبكة درامية (أحداثها حاصلة قبل أعوام قليلة على الانفصال بين جنوبٍ وشمال)، تنفتح على موقع المرأة في ذاك المجتمع، ومعنى العائلة المحكومة بالرجل، ومصائر أفرادٍ يواجهون تمزّقاً في الاجتماع والسياسة والعلاقات. فـ"وداعاً جوليا"، للسوداني محمد قردفاني ـ المعروض أولاً في برنامج "نظرة ما"، في الدورة الـ76 (16 ـ 27 أيار/مايو 2023) لمهرجان "كانّ" ـ يُعنى بهذا كلّه، ويجهد في إيجاد تساوٍ، درامي وجماليّ وسرديّ، بينها كلّها، من خلال امرأتين، جوليا (سيران رياك)، العاملة في منزل منى (إيمان يوسف)، التي (منى) تطلبها للعمل معها بعد تسبّبها بمقتل زوجها في حادث سير.
حربٌ أخرى يشهدها منزل إيمان (ميساخ زارع)، أحد كبار المحقّقين في محاكم منعقدة ضد إيرانيين وإيرانيات، ينتفضون على حكم الملالي، إثر مقتل مهسا أميني (16 سبتمبر/أيلول 2022) في مركز لشرطة الأخلاق، بعد ثلاثة أيام على اعتقالها في الشارع، "لارتدائها ملابس غير لائقة". فالغليان في شوارع طهران، حينها، أشبه بـ"حربٍ" بين طرفين غير متساويين قوةً وأخلاقاً، و"حرب" الداخل (تلك الحاصلة في منزل المحقّق إيمان)، لن تكون أخفّ وطأة وعنفاً (وإنْ يكن مبطّناً) من ذاك المُمارس في الشوارع، وبعض الشوارع قريبٌ جداً من المنزل.
هذا يُشكّل أصل حكاية "بذرة التين المقدّسة"، للإيراني محمد رسولوف، المعروض أولاً في المسابقة الرسمية للدورة 77 (14 ـ 25 مايو 2024) لمهرجان "كانّ". وأصل الحكاية منبثقٌ من نقدٍ سينمائيّ لحالة إيرانية، يجعله رسولوف مرآة تكشف حدّة الحاصل في إيران، والمنعكس في داخل (ذات/منزل/عائلة)، بعد انتباه إيمان إلى "اختفاء" مسدسه في منزله. "حرب" الداخل صامتةٌ، أي إنّ عنفها خفيٌّ، لكنّه ينمو تدريجياً قبل تفلّت إيمان من سلوكه الهادئ والمنفتح سابقاً، ما يعني أنّ ضغط السلطة الحاكمة أقوى من تسامحه العائلي. حربٌ صامتة تُشبه تلك المندلعة بين جوليا ومنى، فمقتل أكرم (نزار جمعة)، زوج جوليا، منعطفٌ لـ"محاكمة"، سينمائية طبعاً، أحوال بلدٍ ومجتمع وأناس، والمحاكمة منسحبةٌ أيضاً على منى، فجوليا متنبّهةٌ (منذ البداية؟) إلى ما تفعله منى معها.
تشريح مساري الفيلمين، وكشف الحاصل في نهايتين ربما تكونان غير متوقّعتين، غير مانِعَين مُشاهدة نتاجين مُشوّقين، لما فيهما من اشتغالٍ بصريّ ممتع، وأداء سيكون إضافة جمالية إلى المناخ المُقلق والمظلم والقاسي، الذي يجمع الفيلمين، المُشاركين في الدورة الأولى (10 ـ 19 إبريل/نيسان 2025) لـ"شاشات الجنوب" (بيروت)، وإنْ بأسلوبين يختلف أحدهما عن الآخر.
فنهاية "وداعاً جوليا" متوافقة مع مسار درامي، وإنْ من دون توقّعات، يروي حكايته بهدوء يستمرّ إلى النهاية، رغم حدّة العنف الحاصل في أمكنة وذوات. بينما نهاية "بذرة التين المقدّسة"، فتقطع، سينمائياً ودرامياً وسردياً، مع جمالية "الهدوء" المستخدم في سرد الحكاية، والتقاط نبض الشارع والفرد، إذْ يُطيل رسولوف المشهد الأخير، إلى لحظة ملل من تكرار غير مُفيد، مع أنّ فيه شيئاً من جمالية الترميز إلى المتاهة التي يقع فيها إيمان، إنْ يوقعه فيها أفراد عائلته، الزوجة نجمة (سهيلة جلستاني) وابنتيه رضوان (مهسا رستمي)، الطالبة الجامعية، وسناء (ستارة مالكي)، تلميذة المدرسة؛ أمِ السلطة بأشكالها المختلفة.
إلى مآسي بلدٍ، يتخبّط بحروبٍ تبدو كأنّها عصيّة على الانتهاء، يستعيد محمد قردفاني بعض الماضي السوداني، عبر شخصية منى، المغنية المحترفة، لكنِ المتوقّفة عن الغناء منذ أعوام، بعد زواجها. هذا جزءٌ من تبدّل أحوالٍ في ذاك البلد المليء بتراثٍ فني تُغيّبه سياسات حاكمة، وبعض السياسات متأتٍّ من خارج الحكومة، أي من تفكير مجتمع ودين. أمّا محمد رسولوف، فيُقدّم شيئاً من وقائع عيشٍ في مجتمع منغلق. فالسلوك المنفتح للأب، قبل خروج العنف من ذاته (فقدانه المسدس الذي يمتلكه بعد تنامي القلق فيه من ردات فعل الشارع ضدّه وضد عائلته)، يكشف لاحقاً، بمواربة، أنّ إيمان غير متسامح كلّياً مع نفسه والآخرين، ما يعني أنّ العنف أصيل فيه، والخوف من بطش السلطة دافعٌ، غالباً، إلى تفجّره، بالمعنى السلطوي الذكوري.
كلامٌ كثيرٌ يُقال في الفيلمين (مع أنّه في "وداعاً جوليا" أقلّ، ومساحات الصمت، رغم قلّتها، كافيةٌ لتعبيرات أجمل وأعمق)، من دون بلوغ مرتبة الثرثرة، فالتكثيف الدرامي فيهما كفيلٌ بجعل الكلام انعكاساً لحالات وتفاصيل ووقائع.
