هيمن التحفظ والحياد والدعوات إلى وقف العنف على المتابعات الروسية لمواجهات الساحل السوري التي بدأت الأسبوع الماضي إثر تمرد لفلول النظام السابق، وراح ضحيتها ما لا يقل عن 800 قتيل، بحسب آخر توثيق للشبكة السورية لحقوق الإنسان، يوم أمس الثلاثاء، مع توفير مأوى لآلاف الفارين من المجازر في قاعدة حميميم الجوية في محافظة اللاذقية، وعقد مشاورات مغلقة بمجلس الأمن (أول من أمس)، أكد مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة، فاسيلي نيبينزيا، إجراءها بالتنسيق مع واشنطن.
وقال الكرملين، أمس الثلاثاء، إنه يريد أن يرى سورية "موحدة وصديقة، لأن عدم الاستقرار هناك قد يؤثر في المنطقة بأسرها". وأضاف المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف: "إنها منطقة متفجرة للغاية، بالطبع زعزعة الاستقرار، أو عدم الاستقرار في واحد من بلدان المنطقة قد تكون له تداعيات كارثية على المنطقة بأسرها. لذلك، نريد أن نرى سورية موحدة ومزدهرة ومتطورة وذات مستقبل واضح وصديقة"، لافتاً إلى أن موسكو تتواصل مع عواصم أخرى بشأن الوضع في سورية بعد أحداث الساحل. وكان بيسكوف قد دعا، أول من أمس، إلى وقف العنف في سورية، محجماً في الوقت نفسه عن التعليق على مستقبل القواعد العسكرية الروسية في هذا البلد، ومزاعم اختباء سكّان سوريين مدنيين بقاعدة حميميم الجوية في اللاذقية. وفي معرض تعليقه على تقييم الكرملين للوضع، أضاف: "ثمة مظاهر عنف (في سورية) لا يمكنها ألا تثير قلقنا البالغ". وتابع قائلاً: "العديد من دول العالم والمنظمات الدولية، بما فيها الأمم المتحدة، تشاطرنا هذا القلق. الأهم استبعاد مثل هذه المظاهر للعنف في أسرع وقت".
"الأسد أو نحرق البلد"
وأرجع الخبير في المجلس الروسي للشؤون الدولية، المستشرق كيريل سيميونوف، انفجار الأوضاع في الساحل السوري إلى مجموعة من العوامل، بما فيها إصرار بعض العناصر من النظام السابق على مبدأ "الأسد أو نحرق البلد"، وعزوف بعض العناصر في الجيش السوري الجديد عن الامتثال للأوامر، مفنداً ما تردد من شائعات عن وقوف روسيا خلف ما يجري.
وقال سيميونوف في حديث لـ"العربي الجديد": "التمرد شنّته مجموعات بعضها طائفي وتضم مقاتلين لهم صلة بقوات النخبة التابعة لنظام الأسد مثل الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة ولواء أبو الفضل عباس، ولا يجوز استبعاد الاحتمال أن هذا الحراك وقع بصورة عفوية تحقيقاً لمبدأ (الأسد أو نحرق البلد)". وبرأيه، فقد ساهم في تأجيج الوضع "انضواء الجيش السوري الجديد على مسلحين يتحدر بعضهم من الجمهوريات السوفييتية السابقة ولوحظوا في بانياس (طرطوس)، يتحركون بلا أوامر ويعتبرون القتل الجماعي تصرفاً مقبولاً، ما يفرض على السلطات الجديدة معاقبتهم وتسريحهم من الخدمة".
وقلّل سيميونوف من أهمية مزاعم وجود مصلحة لطهران أو موسكو في ما جرى، معتبراً أن "انهيار الدولة السورية لن يحقق أي مكاسب لإيران، بينما يقتصر الدور الروسي على استقبال الفارين من المجازر في قاعدة حميميم الجوية وتوفير مأكل ومأوى لهم، بينما تسعى قوى غربية وربما إسرائيل لإلقاء مسؤولية ما يجري على عاتق روسيا بهدف إفساد العلاقات بين موسكو ودمشق عبر تعريض الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية أحمد الشرع، لضغوط شعبية حتى يعلن إقصاء القواعد الروسية، ما سيصبّ في مصلحة الغرب الذي يبحث عن حرمان روسيا أي دور في الشؤون السورية".
بدوره، جزم الأكاديمي السوري المعارض لنظام الأسد المقيم في موسكو، محمود الحمزة، بأن أحداث الساحل السوري لا تصبّ في مصلحة موسكو التي تسعى لتأسيس علاقات براغماتية مع السلطة السورية الجديدة، معتبراً في الوقت ذاته أن الوضع الراهن يتطلب تكاتفاً من جميع أطياف الشعب السوري من أجل تحقيق تطلعاته لغد مشرق.
واعتبر الحمزة في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "موسكو تسعى لبناء علاقات براغماتية مع السلطات السورية الجديدة، ولم تعد تكترث لبشار الأسد وفلوله، ولا علاقة لها بعناصرها الذين باشروا بقتل أفراد الأمن والمدنيين على حد سواء". وشدّد على أن القضية الرئيسية بالنسبة إلى روسيا "هي مستقبل قاعدة حميميم الواقعة في قلب الأحداث على مقربة من مدينة اللاذقية وجبلة، ما أدى إلى توجيه اتهامات إلى روسيا بوقوفها وراء ما يجري، ولكنني على قناعة بأنه ليست لموسكو مصلحة في أن تتدخل بالشؤون الداخلية السورية لدعم بقايا النظام، وإنما أن تبني علاقات جيدة مع دمشق".
محمود الحمزة: موسكو تسعى لبناء علاقات براغماتية مع السلطات السورية الجديدة ولم تعد تكترث للأسد وفلوله
ومع ذلك، لم يستبعد الأكاديمي السوري المعارض، احتمال أن تكون لقوى إقليمية مثل إيران وإسرائيل يد في ما يجري، مضيفاً أن "ثمة انطباعاً بأن هناك مخططاً إقليمياً لإسقاط الحكم الجديد وإعادة سورية إلى حظيرة إيران وعهد التشبيح والطائفية. ارتكبت فلول النظام مجازر بحق المدنيين في الساحل، ولكن للأسف اعتدت بعض الفصائل غير المنضبطة على المدنيين أيضاً. الثورة مستمرة، وبناء سورية الجديدة قد بدأ، وهذه معركة الشعب السوري كلّه وبمكوناته كافة، حتى تكون سورية مستقلة موحدة".
أحداث الساحل السوري وشرعية السلطة
من جهته، اعتبر الخبير في المجلس الروسي للشؤون الدولية والباحث غير المقيم في برنامج سورية التابع لمعهد الشرق الأوسط في واشنطن، أنطون مارداسوف، أن أحداث الساحل السوري تنسف جهود إضفاء الشرعية الدولية على السلطات السورية الجديدة، وتعرقل رفع العقوبات الأميركية المفروضة على سورية.
وأوضح مارداسوف في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "المجازر في الساحل السوري تنسف محاولات شرعنة السلطات الجديدة، سواء أكانت مؤقتة أم دائمة، وتزيد من صعوبة الترويج لرفع العقوبات، وأقصى ما يمكن تحقيقه، تمديد فترة تعليق القيود الأميركية التي رفعت في نهايات عهد الرئيس السابق جو بايدن"، معتبراً أن "محاولات الشرع النأي بنفسه عن بعض الفصائل مفهومة ومنطقية، ولكنها لا تغير شيئاً، لأن هناك عناصر مندمجة ضمن جهاز أمنه شاركت في المجازر".
ومع ذلك، أقرّ مارداسوف بأن أعمال الموالين للأسد كانت لها اليد الطولى في ما جرى، مؤكداً أن "عملية منسقة جرت للسيطرة على مواقع حيوية مثل الكلية البحرية ومطار استامو العسكري، ونشر الفوضى في اللاذقية وطرطوس، وبالدرجة الأولى في بانياس، ما أربك حسابات السلطات الجديدة". ورأى أن "موقف إيران وحزب الله اللبناني لم يتضح بعد، ولكن من الواضح أن مكافحة هذه الشبكة ستحظى بالأولوية لدى دمشق، حتى مقارنة بإحباط الهجمات الإرهابية التي يدبرها تنظيم داعش".
وعلى عكس الموقف الرسمي الذي اتسم بدرجة عالية من الحياد، حذرت القنوات الروسية على تطبيق تليغرام من تداعيات طويلة الأجل للأحداث الأخيرة في الساحل السوري، إذ توقعت قناة ريبار البالغ عدد متابعيها أكثر من 1.3 مليون، في منشور أول من أمس، أن "السلطات الحالية التي لا تسيطر إلا على جزء من الأراضي، قد تفقد ما تبقى من شرعيتها في عيون الأقليات"، مرجحة أن تواصل الطائفة الدرزية وغيرها من الأقليات تشكيل نظم أمن مستقلة تعتمد على دعم الرعاة الخارجيين. وكان نائب رئيس مجلس الاتحاد (الشيوخ) الروسي، قسطنطين كوساتشيف، قد اعتبر في منشور على قناته على "تليغرام" يوم الأحد الماضي، أنه "كما كان متوقعاً، تشهد سورية بعد الانقلاب الذي وقع في نهاية العام الماضي، اندلاعاً لحرب أهلية تتخللها الفتنة العرقية والطائفية". واتهم كوساتشيف من قال إنهم "راديكاليون استولوا على السلطة" بتحويل سورية إلى "دولة لعرقية وطائفة واحدة"، على حد تعبيره.
