بعد مرور أكثر من شهر ونصف الشهر على إسقاط نظام بشار الأسد في سورية، في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي، واستلام إدارة جديدة زمام السلطة بحكم الأمر الواقع، وتعيين زعيم "هيئة تحرير الشام" أحمد الشرع قائداً لهذه الإدارة، شهدت سورية مساء أول من أمس الأربعاء، تحولاً سياسياً ترجمه إصدار الإدارة الجديدة سلسلة قرارات أنهت رسمياً رموز الحكم الاستبدادي لآل الأسد، قانونياً ودستورياً وعسكرياً وأمنياً وحزبياً. غير أن هذه القرارات، طرحت في المقابل تساؤلات كبيرة، في ظل غموض مدة الفترة الانتقالية وبديل الدستور الذي تمّ إنهاء العمل به، إضافة إلى قرار تعيين الشرع رئيساً من دون انتخابات ومع حلّ المجلس التشريعي (مجلس الشعب أو البرلمان السوري)، لتبقى الضبابية تلف المشهد المستقبلي في البلاد.
قرارات أحادية تثير المخاوف
وفي اجتماع عقد مساء الأربعاء في العاصمة دمشق لأغلب الفصائل العسكرية والثورية السورية، تقرر تكليف أحمد الشرع رئيساً للبلاد خلال المرحلة الانتقالية. كما قرّر المجتمعون حلّ مجلس الشعب، وتفويض الشرع بتشكيل مجلس تشريعي مؤقت يتولى مهامه حتى إقرار دستور دائم للبلاد. كما تقرر إنهاء العمل بدستور 2012، وحلّ الجيش والأجهزة الأمنية والمليشيات التي كانت من أدوات القمع لدى النظام المخلوع، وطيّ صفحة حزب البعث وأحزاب ما كان يُعرف بـ"الجبهة الوطنية التقدمية"، التي كانت تدور في فلكه، بعد طغيان على الحياة السياسية السورية استمر ستة عقود. كما نقلت وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا) عن المتحدث باسم الإدارة العسكرية العقيد حسن عبد الغني قوله إن المجتمعين قرروا حلّ "جميع الفصائل العسكرية، والأجسام الثورية السياسية والمدنية، ودمجها في مؤسسات الدولة".
إعلان القرارات بشكل أحادي وتخطي مؤتمر الحوار الوطني، أثار مخاوف من تداعياتها، خصوصاً لجهة وضع السلطات في يد شخص واحد
وفي كلمة له وُصفت بـ"خطاب النصر"، قال الشرع إن "أولويات سورية اليوم هي أولاً ملء فراغ السلطة بشكل شرعي وقانوني"، داعياً إلى الحفاظ "على السلم الأهلي من خلال السعي إلى تحقيق العدالة الانتقالية ومنع مظاهر الانتقام وبناء مؤسسات الدولة وعلى رأسها المؤسسات العسكرية والأمنية والشرطية".
وفي محاولة لتقديم تطمينات، قال الشرع، في خطاب مساء أمس الخميس: "سنعمل على تشكيل حكومة انتقالية شاملة، تعبّر عن تنوع سورية برجالها ونسائها وشبابها، وتتولى العمل على بناء مؤسسات سورية الجديدة حتى نصل إلى مرحلة انتخابات حرة نزيهة". وأضاف: "استناداً لتفويضي بمهامي الحالية وقرار حل مجلس الشعب، فإنني سأعلن عن لجنة تحضيرية لاختيار مجلس تشريعي مصغر يملأ هذا الفراغ في المرحلة الانتقالية، وسنعلن في الأيام القادمة عن اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني، والذي سيكون منصة مباشرة للمداولات والمشاورات واستماع مختلف وجهات النظر حول برنامجنا السياسي القادم". وأعلن أنه "بعد إتمام هذه الخطوات، سنعلن عن الإعلان الدستوري ليكون المرجع القانوني للمرحلة الانتقالية". لكن الشرع لم يقدّم موعداً محدداً لهذه التعهدات.
إعلان هذه القرارات بشكل أحادي من قبل الإدارة الجديدة وتخطي مؤتمر الحوار الوطني الذي كان يُفترض عقده لبتّ هذه المواضيع المهمة، أثار مخاوف من تداعياتها، خصوصاً لجهة وضع السلطات في يد شخص واحد، ووسط قلق من "انقلاب" جديد، ولا سيما أن تنصيب الشرع رئيساً لم يكن من طرف مؤتمر وطني يضم كل القوى السياسية والمجتمعية والدينية، بل جاء من قبل قادة فصائل عسكرية ومليشيات ليست محل إجماع وطني.
كذلك فإن القرارات الجديدة لم تحدد مدة المرحلة الانتقالية في البلاد، والضوابط القانونية والسياسية الواضحة التي ستحكم عمل الدولة خلال هذه المرحلة، وهو ما خلق مخاوف من استمرارها لوقت أطول من المتوقع. كذلك فإن تفويض "رئيس الجمهورية بتشكيل مجلس تشريعي مؤقت للمرحلة الانتقالية، يتولى مهامه إلى حين إقرار دستور دائم للبلاد ودخوله حيز التنفيذ"، يثير مخاوف من أن تصبح كل السلطات في يد الشرع. كما أن هذه القرارات لم تجد صدى طيباً لدى أقليات مذهبية ودينية في البلاد تتوجس من فرض سلطة ذات طابع إسلامي خارج إطار الدستور الذي يحتاج إلى سنوات ليرى النور وتجرى على أساسه انتخابات.
سورية بانتظار المؤتمر الجامع
وكان السوريون ينتظرون صدور هذه القرارات من مؤتمر وطني جامع، إلا أن الإدارة الجديدة قرّرت اتخاذها بشكل منفرد بمبرر تدارك الفراغ السياسي الذي تركه نظام الأسد المخلوع، وتمكين الإدارة الجديدة من تمثيل السوريين بشكل رسمي. ولم تضع الإدارة الجديدة يدها بعد على كامل البلاد، حيث لا يزال الشمال الشرقي تسيطر عليه "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، التي تقول إنها تتفاوض مع هذه الإدارة، ما يعني أن القرارات لم تشمل كامل جغرافية البلاد.
في المقابل، أعلنت العديد من القوى السورية الترحيب بهذه القرارات، حيث بارك هادي البحرة، رئيس الائتلاف الوطني السوري، نيل الشرع "ثقة قادة الفصائل واختياره رئيساً للجمهورية العربية السورية في المرحلة الانتقالية"، داعياً إلى بناء "الدولة السورية الجديدة، دولة المواطنة المتساوية".
مؤيد غزلان: القبول العربي والدولي للإدارة السورية الجديدة كان من محفزات البنود المعلنة
وحضر الاجتماع الذي تمّ الإعلان فيه عن القرارات، أغلب الفصائل السورية العسكرية التي شاركت في عملية "ردع العدوان" التي بدأت في السابع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني وانتهت في الثامن من ديسمبر بدخول دمشق وإسقاط نظام الأسد. ومن المتوقع أن تمتد المرحلة الانتقالية لنحو أريع سنوات، حيث سبق للشرع أن قال في تصريحات صحافية إن كتابة دستور للبلاد والقيام بعملية إحصاء كاملة للسكان تسبق إجراء انتخابات سوف تستغرق سنوات عدة. ومن المتوقع تشكيل لجنة من اختصاصيين قانونيين خلال الأيام المقبلة لصياغة إعلان دستوري لتلافي الفراغ التي تركه إنهاء العمل بدستور عام 2012 الذي وضعه الأسد والذي كان مرفوضاً من قبل القطاع الأوسع من السوريين، لأنه كرّس حكم الفرد وكان غطاء للجرائم والمجازر التي ارتكبت بحق السوريين.
وحملت القرارات الجديدة جوانب إيجابية من المتوقع أن تنعكس على حياة السوريين، خصوصاً لجهة وضع حد للحالة الفصائلية التي تتحكم بالمشهد العسكري السوري والتي كان يخشى السوريون من أن تكون بمثابة فخاخ في الطريق للوصول إلى جيش سوري وطني جامع. كما يعد حل الأجهزة الأمنية التي كانت كابوساً في حياة السوريين لمدة أكثر من 50 عاماً، من القرارات التي قُوبلت بترحيب كبير من قبل كل السوريين، فضلاً عن حلّ جيش النظام المخلوع والذي كان له دور أسود في قمعهم، خصوصاً خلال سنوات ثورتهم التي امتدت من عام 2011 إلى أواخر عام 2024.
عرابي عرابي: المشكلة تكمن في أنه ليست ثمة قدرة وأرضية لإجراء انتخابات وتشكيل مجلس تشريعي، ما يجعل الخطوة واقعية
ورأى الباحث السياسي مؤيد غزلان، في حديث مع "العربي الجديد"، أن القرارات التي صدرت مساء الأربعاء، هي "تثبيت الشرعية للمرحلة الحالية في البلاد، مستندة إلى التأييد الشعبي بعد مرحلة التفاعل الميداني مع الشعب منذ الثامن من ديسمبر الماضي". وأشار إلى أنها جاءت "بعد الاستقراء الميداني للشرعية الثورية والدعم الكامل من جميع قوى الثورة العسكرية"، مضيفاً أن "القرارات تحاكي تماماً إعلاناً دستورياً مؤقتاً يملأ الفراغ الدستوري ويعطي شرعية للرئيس الشرع للمضي في الإعلان الدستوري المؤقت ومأسسة المجلس التشريعي المقبل". وأعرب غزلان عن اعتقاده بأن القبول العربي والدولي للإدارة السورية الجديدة بعد إسقاط نظام الأسد "كان من محفزات البنود المعلنة في خطاب النصر مساء الأربعاء"، مضيفاً أن "توالي الزيارات العربية ودعوة مجلس التعاون الخليجي لسورية والزيارات المستمرة من الاتحاد الأوروبي وقادته أعطت أيضاً أرضية قبول صلبة للانطلاق نحو ترسيم المرحلة الانتقالية".
ورأى غزلان أن "حلّ مجلس الشعب وحزب البعث والجيش، كان محصلات متوقعة وبديهية تتطلبها المرحلة الحالية في سورية"، لافتاً إلى أن "الخطوة الأهم كانت ملء الفراغ الرئاسي وإعطاءه الصلاحيات التمثيلية لسورية والتنفيذية لتأسيس مجلس التشريع واللجان المختصة بالدستور وغيره". وتابع: "هذا الاجتماع الذي كان يحتوي النواة الصلبة للواقع السياسي والعسكري الذي يستمد شرعيته من الشرعية الثورية أولاً ومن الشعبية ثانياً"، مضيفاً أن "مشاركة المؤسسات العسكرية في اجتماع النصر ما هي إلا خطوة كان معظم الوسط السياسي يتمنى أن تنعقد في أسرع وقت ممكن لتثبيت ركائز المرحلة الانتقالية والانطلاق نحو مرحلة البناء التشريعي والدستوري والتنفيذي". ورأى أن القرارات "ستعطي استقراراً محورياً للمرحلة الانتقالية"، مضيفاً: "لاحظنا بوادر القبول الشعبي في الشارع السوري وبين أطياف النخب السياسية السورية، وهذا أمر مبشر".
من جهته، رأى الباحث السياسي عرابي عرابي، في حديث مع "العربي الجديد"، أنه "بحكم الشرعية الثورية تم تسليم أحمد الشرع السلطات الثلاث في سورية (التشريعية والقضائية والتنفيذية)"، موضحاً أن "كل ما سيصدر من قرارات سيكون بناء على هذه الخطوة". وأشار إلى أن "عموم الشعب رحّب بهذه القرارات، لكن بعض المثقفين والمعارضين للإدارة لهم ملاحظات كثيرة عليها". واعتبر أن المشكلة في سورية تكمن في أنه ليست ثمة قدرة وأرضية لإجراء انتخابات وتشكيل مجلس تشريعي، ما يجعل ما جرى خطوة واقعية يمكن البناء عليها، وليس انتقادها فقط.
