يكشف تحقيق "العربي الجديد" كيف تفاقمت ديون تونس بعد سيطرة الرئيس قيس سعيّد الكاملة على البلاد والتخلص من خصومه في عام 2021، مناقضا خطاباته المتكررة حول أهمية "الاعتماد على الذات" حفاظا على "السيادة الوطنية".
- في خطاباته الرسمية، يشدد الرئيس التونسي، قيس سعيّد، على أهمية "الاعتماد على الذات" حفاظا على "السيادة الوطنية"، حلا للأزمات الاقتصادية التي تمر بها البلاد، لكن الممارسات الحكومية تناقض ذلك، فعلى أرض الواقع تتجه البلاد نحو مزيد من الارتهان للاقتراض الخارجي، والتمويل الداخلي كما يكشف تحقيق "العربي الجديد"، عن غياب استراتيجية اقتصادية واضحة، ما يعقد الأوضاع الحياتية ويفاقم الأزمة المعيشية، جراء "خطاب سيادي لا يترجم إلى سياسات فعالة"، كما يصفه المختص في التواصل السياسي، فطين حفصية.
محصلة تلك الشعارات الشعبوية تدهور واضح في أحوال التونسيين اقتصاديا، فأمام رفوف أحد المتاجر في حي الخضراء الشعبي في العاصمة تونس، وقفت أمينة علية، الموظفة في القطاع العام، تُقلّب في قائمة مشترياتها، وتحذف منها ما لم يعد في متناول اليد لشحّ ميزانيتها. تقول بحسرة: "كنا نعيش بأمان نسبي، اضطررنا إلى أن نغيّر سلوكياتنا المعيشية فالتضخم يبتلع كل شيء، حتى أحلامنا في العيش".
واللافت أن كثيرا من الأسر التونسية كعائلة علية ما زالت تشكو ولم يتغير حالها، رغم انخفاض التضخم إلى معدل 7% خلال عام 2024، بعدما كان 9.3% في عام 2023، بحسب بيانات المعهد الوطني للإحصاء (حكومي).
من بين هؤلاء المدرس في المرحلة الثانوية خالد محمودي، الذي يعيش معاناة مشابهة، ويعبر عن خيبة أمله من الوعود الرسمية بالتغيير قائلا: "كل دخلي مكرس لدفع ديوني"، في إشارة إلى القروض الاستهلاكية التي اضطر إلى سحبها لتغطية احتياجات أسرته. وينسحب حاله على 43% من الأسر التونسية المنتمية إلى الطبقة المتوسطة التي انزلقت نحو الديون، وفقدت قدرتها على امتلاك مسكن لائق أو حتى بناء أي نوع من الثروة العقارية، بحسب دراسة أصدرها في مارس/آذار 2022، المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (منظمة مستقلة) بعنوان "عدم المساواة في تونس حسب الدّخل والإنفاق والثروة".
خطاب يناقض الواقع
في كلمة ألقاهها أمام المعتصمين من عمّال الحوض المنجمي، (يضم احتياطات هامة من الفوسفات)، بمدينة الرديف بمحافظة قفصة جنوب غربي تونس، بتاريخ 13 يونيو/حزيران 2023، جدد الرئيس سعيّد تمسكه برفض ما وصفه بـ"الإملاءات الأجنبية"، قائلا: "لا نمد أيدينا للخارج، ولا توجد سورة في القرآن اسمها صندوق النقد الدولي، نحن بقدراتنا قادرون على خلق الثروة". وتعد المناسبة هذه واحدة من سلسلة مواقف عبر فيها عن رفضه للخضوع للضغوط الدولية المرتبطة بالديون والقروض المشروطة كما يصفها، بحسب رصد أجراه "العربي الجديد"، شمل 5 خطابات ألقاها بين 6 إبريل/نيسان و23 يونيو 2023، وأعاد تأكيده على الموقف ذاته في 4 مناسبات رسمية خلال عام 2024 وفق ما جاء على الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية على موقع "فيسبوك".
28 قانونا تتعلق باتفاقيات قروض صادق عليها البرلمان التونسي
السؤال الآن، هل ترجمت حكومات الرئيس المتوالية منذ سيطرته الكاملة على البلاد في 25 يوليو/تموز 2021 تصريحاته إلى سياسات اقتصادية عملية؟، الإجابة لا، إذ صادقت الحكومة التونسية على 28 قانونا تتعلق باتفاقيات قروض، من بينها 24 قرضا خارجيا، مقدمة من مؤسسات مانحة دولية، منها على سبيل المثال لا الحصر، الوكالة الفرنسية للتنمية، والبنك الأفريقي للتنمية، والحكومة الإيطالية، إلى جانب 4 اتفاقيات قروض داخلية، بحسب ما يتضح عبر رصد للبيانات المنشورة على البوابة الرسمية لمجلس نواب الشعب الجديد خلال الفترة بين مارس 2023، وحتى 19 مايو/أيار 2025، بعد تجميد وحل البرلمان القديم (المعارض) قبلها بعام.
"وعادة ما تشح الأرقام والتفاصيل في البرامج والوعود التي تقدمها القيادات الشعبوية، إذ يتوسل خطابهم أدوات التعميم والتعويم، والتوجه نحو الغائب، بالإضافة إلى التفسير المؤامراتي لكل ما يحدث"، يقول المختص حفصية، موضحا أن الشعبوية يمكن أن تتحول إلى "عقيدة" تُبنى عليها العلاقة العمودية بين الحاكم والمحكوم، ليسود خطاب تعبوي يقوم على التكرار وهيمنة النقاش على مواضيع محددة، فتتحول إلى مسلمات لدى المتلقي بعد أن يتم تقسيم المجتمع إلى ثنائية الخير والشر فتؤمن بها شريحة واسعة "بشكل أعمى" وهذا مُراد تكرار شعارات "السيادة الوطنية"، وتعد خطابات فعالة وخير دليل على قوة أثرها نجاح سعيّد في جذب الناخبين خصوصا في الانتخابات الرئاسية التي جرت في أكتوبر/تشرين الأول 2024، ما أسهم في فوزه بأغلبية مريحة، رغم التباين الواضح بين الخطاب والواقع الاقتصادي.
برلمان "القروض"
"غالبية القوانين التي تمت مناقشتها في البرلمان تتعلق باتفاقيات قروض يتم تقديمها من قبل الحكومة نفسها، ويستفيد البرلمان من غياب الرقابة الإعلامية على أعمال اللجان مما يسهل تمرير هذه الاتفاقيات"، يقول النائب ورئيس لجنة الفلاحة والأمن الغذائي والمائي والصيد البحري البرلمانية، بلال مشري.
من أجل فهم طبيعة القروض المصادق عليها، سأل "العربي الجديد" رئيس لجنة المالية في البرلمان التونسي عصام شوشان عما جرى، بين عامي 2021 و2024، فأجاب أن أكبر القروض التي تمت المصادقة عليها لصالح تمويل الميزانية كان بقيمة 7 مليارات دينار (2.3 مليار دولار أميركي) من البنك المركزي التونسي، وآخر بالعملة الصعبة من بنك محلي، بالإضافة إلى قرض إيطالي دون فوائد يمتد سداده على 40 عاما. ومن بينها 16 قرضا موجهة لبرامج تنموية، خلال العامين 2023 و2024، إذ صادق البرلمان على 5 منها مخصصة لمشاريع طاقة ومن أبرزها مشروع "El Med"، وهو خط كهرباء بحري يربط تونس بإيطاليا، وقرض لتطوير المؤسسات التربوية، وآخر لتحسين خدمات التطهير (الصرف الصحي). كما تمت المصادقة على قروض لدعم الشركات الصغيرة والمتوسطة، وتمويل مشروع سكة حديدية، موضحا أن عام 2024 شهد وحده المصادقة على 19 قرضا من بين المجموع الكلي للقروض المرصودة، منها 3 موجهة مباشرة لتمويل خزينة الدولة، و16 قرضا استثماريا لتغطية مشاريع في قطاعات مختلفة.
سؤال الجدوى والأثر الاقتصادي
وفقا لما تظهره الاتفاقيات الـ 28، فإنها قروض تفتقر للجدوى الاقتصادية، وُجّه معظم الخارجية منها إلى مشاريع تتعلق بالبنية التحتية، بينما الاستدانة الداخلية ترمي إلى تمويل عجز الخزينة العامة للبلاد، ويحذر عبد اللطيف بن هدية، رئيس المرصد التونسي للخدمات المالية (غير حكومي)، من هذا التوجه قائلا إن الحكومة التونسية "تعتمد بشكل كبير على الاقتراض لتغطية العجز في ميزانيتها، إذ تمثل القروض الخارجية والداخلية ما نسبته 35% من إجمالي الموارد المخصصة لتمويل المشاريع التي تنفذها، أي أنها موجّهة بشكل أساسي نحو الاستهلاك والإنفاق وليس الاستثمار، مما يفقدها الجدوى الاقتصادية".
تتوجه الدولة نحو مزيد من الاقتراض بشكل يتناقض مع الخطاب الرسمي
في ظل تلك الظروف بلغ الاستثمار العمومي مستوى متدنّيا غير مسبوق، إذ لم يتجاوز 6.7% من النفقات العمومية، أي ما يعادل 5.4 مليارات دينار (1.75 مليار دولار)، في حين تراوحت نسبته تاريخيا بين 10% و20% من إجمالي الميزانية، بحسب ما تكشفه دراسة نشرها الاتحاد العام التونسي للشغل (منظمة نقابية) في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، تحت عنوان "مذكرة حول قانون المالية لسنة 2025: من أجل تجسيم حقيقي وملموس للعدالة الاجتماعية"، منتقدة غياب المشاريع التنموية الهيكلية الكبرى، والتي اعتُمد بدلا منها تمويل عدد كبير من المشاريع الصغيرة والمتوسطة التي لا تحمل أثرا اقتصاديا يذكر.
مخاطر الرهان على الاقتراض الداخلي
"في العام 2023، سجّلت تونس أدنى معدّل نموٍّ اقتصادي خلال عقدٍ من الزمن عند حدود 0.4 في المئة، باستثناء السنة الأولى لتفشّي وباء كوفيد-19، أي العام 2020 (وكان نموًّا سلبيًا). ونجم هذا الأداء الضعيف عن أسباب محلية، مثل تراجع الاستهلاك نتيجة ارتفاع معدّل التضخّم، ومحدودية فرص العمل، وتدهور الظروف الاجتماعية، إضافةً إلى انخفاض حجم الاستثمارات"، بحسب دراسة الاقتصاد التونسي في عين العاصفة الصادرة في 13 فبراير/شباط الماضي عن مركز كارنيغي.
وتجاوز حجم الاقتراض من البنوك المحلية والبنك المركزي التونسي لتمويل ميزانية الدولة ما نسبته 80.5% من الناتج المحلي الإجمالي، والذي يشير إلى القيمة السوقية الإجمالية للسلع والخدمات النهائية المنتجة داخل البلد سنويا ويُستخدم مؤشرا رئيسيا لقياس حجم الاقتصاد وأدائه، وهذا من شأنه أن يعرّض البلاد إلى مشاكل تقلبات أسعار الصرف وزيادة الحاجة للعملة الصعبة لسداد مستحقات الديون، كما يوضح أنيس وهابي، المحاسب والباحث في الاقتصاد والمدير التنفيذي لشركة استشارات مالية خاصة.
وتبرز الأرقام عمق الأزمة المالية التي تمر بها البلاد، إذ ارتفع الدين العام (إجمالي الأموال التي تقترضها الدولة من مصادر داخلية وخارجية) كنتيجة لتصاعد اعتماد الدولة على الاقتراض لتغطية نفقاتها، من 67.75% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2019 إلى 79.81% في 2024، بحسب ما يكشفه آرام بلحاج، الباحث المتخصص في الاقتصاد والأستاذ المساعد في كلية العلوم الاقتصادية والتصرف بنابل التابعة لجامعة قرطاج، مضيفا أن الدين الداخلي، أي ما تتحمله الدولة تجاه مقرضين محليين، تفاقم خلال خمس سنوات، من 20% إلى 33.6% من الناتج المحلي. وهو ما يؤكده الوهابي بأن الاقتراض من البنوك المحلية، بلغ أكثر من 22 مليار دينار (7 مليارات و390 مليون دولار). ويتفق المصدران على أن التمويل الداخلي رغم أنه لا يستنزف احتياطي النقد الأجنبي، إلا أنه منافسة للقطاع الخاص على التمويل، ويرفع أسعار الفائدة، مما ينعكس سلبا على الاستثمار والنمو بسبب إعطاء الأولوية للدولة على حساب الشركات الخاصة.
أما الدين الخارجي، فقد تراجع قليلا من 47.6% إلى 46.1%، لكن الدولة ما زالت تخصص جزءا كبيرا من الميزانية لسداد أقساطه وفوائده، وهو ما يضعف قدرتها على تمويل المشاريع التنموية والخدمات العامة، وفق تحليل مبني على تقارير تنفيذ الميزانية بين عامي 2019 و2024 عمل عليه بلحاج. ويقرّ البرلماني شوشان أن هذا المستوى المرتفع من المديونية يؤثر سلبا على احتياطي العملة الصعبة لذا تنخفض قيمة الدينار مقابل العملات الأجنبية، ما يجعل سداد الفواتير الخارجية أكثر صعوبة.
"والحكومة على دراية بالعواقب المحتملة لهذا التوجه لكنها تعتبره الحل الأمثل بدل عواقب عدم سداد الديون الخارجية الأكثر خطورة من التضخم، بحيث يعد هذا الخيار حلّا قصير الأمد، في انتظار التوصل إلى حلول جذرية تساعد في تحفيز الاستثمارات وتغيير وتيرة النمو الاقتصادي" وفقا للوهابي.
الدولة تنافس على السيولة
تكرس موازنة عام 2025 ما سبق، إذ تكشف عن توجه مقلق نحو مزيد من الاقتراض الداخلي، ما يعمق هشاشة النظام المصرفي ويفرض ضغوطا غير مسبوقة على القطاع الخاص، فقد "برمجت الحكومة اقتراضا داخليا بقيمة 21.872 مليار دينار (نحو 7.2 مليارات دولار)، أي أكثر من ثلاثة أضعاف حجم الاقتراض الخارجي المقدر بـ6.131 مليارات دينار (حوالي 2.04 مليار دولار)"، وفق شوشان.
تداعيات هذا التوجه، يحذر منها نادر حداد، المتخصص في الشأن المالي، موضحا أن انكشاف البنوك المحلية على ديون الدولة قد يقود إلى تعثر في السداد، وأزمات سيولة، وربما انهيار مصرفي إذا ما تفاقم الضغط، كما يشير إلى أن ارتفاع مستويات التضخم وتقليص السيولة في السوق يضر بالاستثمار والنمو الاقتصادي.
لكن الجزء الأكبر من هذا التمويل لا يأتي من البنك المركزي نفسه، بل من البنوك التجارية المحلية، وهو ما يفتح الباب أمام مخاطر مزدوجة: من جهة، يُستخدم النظام المصرفي كأداة تمويل مباشر للدولة؛ ومن جهة أخرى، يُقصى القطاع الخاص، خاصة المؤسسات الصغرى والمتوسطة من الوصول إلى التمويل، وفق ما يشرحه عبد الرزاق حواص، الناطق باسم الجمعية الوطنية للمؤسسات الصغرى والمتوسطة (منظمة جمعياتية نقابية تدافع عن المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الخاصة). ويلفت حواص إلى أن هذا النوع من التمويل المباشر يزاحم الشركات الصغرى والمتوسطة على موارد البنوك، إذ تفضّل المؤسسات المصرفية إقراض الدولة باعتبارها "مقترضا مضمون السداد"، مما يحرم العديد من الشركات من التمويل اللازم لتوسيع أعمالها. ويضيف: "البنوك يجب أن تقوم بدورها الأساسي في دعم الأفراد والمؤسسات، لا أن تتحول إلى خزينة ظلّ للحكومة".
ويضيف حداد أن: "تقويض استقلالية البنك المركزي يشكل خطرا آخر، لأنه يُخضع المؤسسة المالية الأهم في البلاد للقرار السياسي بدلا من المعادلات الاقتصادية". ويأخذ هذا التحذير بعدا عمليا في ضوء مصادقة البرلمان، في ديسمبر/كانون الأول 2024، على فصل إضافي من القانون رقم 35 لعام 2016، يقلّص استقلالية البنك المركزي، حيث أصبح الأخير ملزما بالتشاور مع الحكومة قبل اتخاذ قرارات بشأن أسعار الفائدة والسياسة النقدية، كما سُمح له بتمويل مباشر لخزينة الدولة عبر شراء السندات الحكومية، تحت غطاء الاستثناء وبشكل ظرفي.
ويتخوف الأمين العام المساعد بالاتحاد العام التونسي للشغل سمير الشفي من توجه الحكومة في توسيع الاقتراض الداخلي قائلا إن "خضوع البنك المركزي للسلطة التنفيذية خطير، إذ سيؤدي إلى ارتفاع التضخم وهبوط قيمة الدينار ونحن في الاتحاد نرفض أن يكون المركزي فوق الدولة ولكننا نرفض كذلك تدخل الحكومة المباشر والحل الأمثل يكمن في الحفاظ على استقلالية البنك مع اعتماد مرونة في القروض المباشرة وفق معايير موضوعية يحددها المركزي لتحقيق التوازن بين حساباته المالية وحاجيات الحكومة من السيولة.
