بي بي سي
"الوضع بشكل عام مأساوي جداً، والظروف المعيشية صعبة للغاية؛ فلا ماء ولا كهرباء ولا بنية تحتية، ولا خدمات تعليمية أو صحية". ربما يبدو هذا وصفاً لأحد سكان غزة بعد أكثر من عام من الحرب التي دمرت القطاع الفلسطيني وبنيته التحتية، لكن الحقيقة أن هذا هو الوضع الدائم منذ أكثر من نصف قرن في قرية العراقيب بصحراء النقب في إسرائيل، حسبما قال نجل أحد أشهر زعماء القرية لبي بي سي.
يسكن العراقيب اليوم 22 عائلة، ويقدر عدد سكانها بنحو 87 شخصاً، وفق عزيز صياح، نجل الشيخ صياح الطوري، شيخ قرية العراقيب، الذي يوصف بأنه أحد أبرز "مناضليها". ويقول عزيز لبي بي سي إن قسماً من هؤلاء السكان "يعيش في سيارات متنقلة"، وقسماً آخر يبني الخيم والبيوت بأبسط المواد "من الخشب وقماش اليوتا والنايلون".
لم يكن هذا تعداد سكان قرية العراقيب قبل نحو عقد من الزمن؛ فوفقاً لـ "منتدى التعايش السلمي في النقب من أجل المساواة المدنية"، الذي أسسه عدد من المواطنين العرب واليهود، فإن عدد سكان العراقيب كان يقدر بنحو 400 نسمة حتى 27 يوليو/تموز عام 2010 حين تعرضت بيوت القرية للإزالة من قبل السلطات الإسرائيلية.
هذا يعني أن عدد سكان العراقيب تقلص خلال عشر سنوات إلى أقل من الرُبع، في إطار مرحلة من مراحل تراجع عدد سكان القرية منذ ما يصفه سكانها بـ "المجزرة" التي شهدتها القرية عام 1948، مروراً بالحكم العسكري الإسرائيلي والنزوح القسري للسكان، بحسب ما حكاه شهود عيان من القرية ممن عاصروا فترة الخمسينيات.
ويحذر منتدى التعايش السلمي في النقب، من أن الخطر الأساسي على القرية هو "الهدم والاعتقالات وأعمال البلطجة واستخدام الأسلحة ضد سكان القرية".
وعلق عزيز صياح بأن العراقيب هي "أول قرية تهدم بيوتها بالكامل" في النقب، كنوع من "الاختبار" لرد فعل الأهالي، لتطبيق الفكرة ذاتها على بقية القرى غير المُعترف بها إسرائيلياً، بحسبه.
وأكد أن "المضايقات والملاحقات والاعتقالات للشباب والنساء" مستمرة حتى يومنا هذا لأهالي القرية، مضيفاً أن "الصندوق القومي اليهودي حاول أكثر من مرة غرس أشجار حرجية [أشجار للزينة]، خاصة على أرض الشيخ صياح الطوري، ويقومون دائماً باعتقالات للأهالي، والتنكيل بهم ومصادرة سياراتهم ومحتويات البيوت".
تقع العراقيب في المنطقة الشمالية من صحراء النقب إلى الشمال من بئر السبع، وتتبع رسمياً التقسيم الإداري أو ما يعرف بـ"قضاء" بئر السبع، منذ العهد العثماني مروراً بالانتداب البريطاني وحتى اليوم.
ويقول المؤرخ والأكاديمي الدكتور إبراهيم أبو جابر عن تحديد موقعها في كتابه "العراقيب: التاريخ، الأرض، الإنسان" الذي صدر في عام 2018، إنها تقع بين الضفة الغربية "جبل الخليل"، وقطاع غزة.
ويصف عزيز صياح الموقع بأنه "استراتيجي"، بيد أن هناك العديد من البلدات "اليهودية" التي تفصل بين العراقيب وبين الضفة من ناحية، وبينها وبين غزة من ناحية أخرى، بحسبه.
وقد اكتسب اسم القرية شهرة واسعة بسبب عمليات الهدم ومصادرة ممتلكات سكانها باستمرار خلال العقد الأخير، حتى إن السيدة صباح زوجة عزيز صياح، ابن شيخ العراقيب، قررت أن تطلق اسم "عراقيب" على إحدى بناتها، عندما علمت فور ولادتها بإحدى عمليات الهدم والتجريف المستمرة منذ عام 2010 للقرية.
وقالت السيدة التي تبلغ 47 عاماً لبي بي سي: "سميتها عراقيب كي تحمل القضية برمتها بتاريخها وحاضرها".
تعود ملكية العراقيب إلى عدد من العشائر العربية التي سكنت المنطقة قبل مئات السنين، "وربما آلاف السنين" بحسب المؤرخ الفلسطيني أبو جابر. ويعود تاريخ تأسيس القرية إلى عهد العثمانيين.
ويقول المؤرخ الفلسطيني سلمان أبو ستة في دراسة بعنوان "العراقيب هي فلسطين"، إنه بعد أعوام قليلة من بسط العثمانيين سيطرتهم على بلاد الشام ومصر، فرضت الدولة الضرائب على الأراضي المزروعة.
وأشار أبو ستة إلى وثيقة نادرة للضرائب العثمانية تعود إلى نحو 400 عام قبل تأسيس دولة إسرائيل، صدرت في عام 1569، توضح أن الأراضي "التي تدعي إسرائيل في محكمة بئر سبع أنها قفْر لا صاحب لها"، هي أرض "مفتلحة [مزروعة] يعيش عليها أهلها ويدفعون عنها الضرائب".
وذكر أبو ستة أن من بين تلك الأراضي "خربة الجعيثني" التي عُرفت بأرض بني عقبة خلال فترة الانتداب البريطاني على فلسطين، وكان يسكنها في القرن السادس عشر أكثر من 43 عائلة، بحسب الدراسة.
وتقدر مساحة ديرة العراقيب بحسب أبو جابر بنحو 100 ألف دونم أو كيلومتر، معظمها أراضٍ زراعية. ويقول أبو جابر إن العراقيب تسكنها اليوم عشائر عربية ذكرها بالتفصيل في كتابه الذي حصلت بي بي سي على نسخة منه.
وأوضح المؤرخ أبو جابر الذي تنحدر أصوله من قرية العراقيب، أن هذه الأراضي ملكية خاصة "أبا عن جد" لتلك العشائر، وأن بحوزة أصحابها "مستندات رسميّة" تثبت ذلك قبل قيام دولة إسرائيل عام 1948، لكن السلطات الإسرائيلية سنّت العديد من "القوانين العنصرية"، وفق تعبير أبو جابر، "لتتمكن من مصادرتها".
وقد تواصلت بي بي سي مع وزارة العدل الإسرائيلية للتعليق، ولم تتلق أي رد حتى الآن؛ لكن المؤرخ الإسرائيلي موردخاي نيسان قال لبي بي سي عربي إن القانون والسياسة الإسرائيلية لا يعترفان "بحق العودة" للعرب إلى منازلهم أو أراضيهم السابقة من عصور ما قبل تأسيس الدولة الإسرائيلية عام 1948.
وأضاف نيسان لبي بي سي أن هذا القانون "يتفق مع المبدأ القائل بأن العدوان يُبطل الحقوق"، متهماً العرب بارتكاب "أعمال عدائية عسكرية" في ديسمبر/كانون الأول عام 1947، قبل إعلان قيام دولة إسرائيل بنحو خمسة أشهر.
وعلق الباحث الإسرائيلي في دراسات الشرق الأوسط قائلاً إن العرب "يدفعون الآن ثمن شن الحرب" قبل نحو 77 عاماً.
يرى المؤرخ الفلسطيني سلمان أبو ستة في دراسته أن أكثر ما ساهم في سلب وثائق الملكية في القرية وغيرها من مناطق النقب هي فترة الانتداب البريطاني التي صدر فيها تقرير عام 1921 لمسح كامل الأراضي والتثبت من وجود الوثائق القانونية الدامغة لملكية "كل دونم في فلسطين".
ويقول أبو ستة إن حكومة الانتداب بات في استطاعتها تصنيف معظم الأراضي بأنها "موات"، أي لا مالك لها، بحكم أن الأغلبية الساحقة من الأراضي مملوكة ومزروعة بحكم العرف والعادة والتوارث من جيل لجيل.
ومع ذلك، فقد أرفق أبو ستة وثيقة باللغة الإنجليزية، تُعرف بقرار تشرشل، وزير المستعمرات آنذاك، في سنة 1921 بالاعتراف بحقوق أهالي قضاء بئر السبع بحسب العرف والعادة.
وأرفق المؤرخ الفلسطيني أبو ستة مع الوثيقة ترجمة باللغة العربية توضح ما جاء في اجتماع وفد من مشايخ بئر السبع مع وزير المستعمرات البريطانية في 29 مارس/آذار 1921، في مقر الحكومة في القدس، ونصت الوثيقة على ما يلي:
"وقد أعاد وزير المستعمرات تأكيد الوعود التي أعُطيت في بئر السبع من جانب المندوب السامي للمشايخ بأن الحقوق الخاصة وعادات القبائل البدوية في بئر السبع لن يجري التعرض لها".
كما تضمنت دراسة "العراقيب هي فلسطين" خريطة قانون انتقال الأراضي لسنة 1940 الذي يحدد الأراضي العربية الصرفة التي يُمنع اليهود من التملك فيها، والأراضي اليهودية التي يُسمح لليهود بالتملك فيها، والأراضي ما بين هذا وذاك، بإذن من المندوب السامي مباشرة.
وتوضح الخريطة أن المنطقة "أ" ومساحتها 16.680، هي أرض عربية صرفة لا يُسمح لليهود بالتملك فيها، وتشمل مساحة قضاء بئر السبع التي تتبع لها قرية العراقيب، ومناطق أخرى.
ويعلق المؤرخ الفلسطيني بأن "إسرائيل استولت على هذه الأراضي كلها بعد الغزو الصهيوني سنة 1948 وسجلتها أراضي دولة، إلا أن بريطانيا لم تسجل أراضي بئر السبع أراضي دولة قط. ولو كانت أراضي قفراً كما تدعي إسرائيل لسجلتها بريطانيا أراضي دولة".
ذكر الكتاب والمؤرخون الفلسطينيون، بناء على شهود عيان، أن القرية شهدت توترات منذ ما يُعرف بـ"النكبة" في مايو/أيار عام 1948 (إعلان تأسيس دولة إسرائيل)، بدأت بمنعهم من حراثة أرضهم وحصادها ورعي الغنم، وقتل بعض الأفراد، ثم انتهت بـ"مذبحة" جماعية راح ضحيتها 14 من أفراد القرية.
وذكر الدكتور إبراهيم أبو جابر أن هناك قائداً عسكرياً إسرائيلياً، يعرف باسم مستعار "موشيه خواجا"، أو "موسى العير" من مستوطنة مشمار هنيجب، كان يجوب النقب مع مجموعة من مسلحين آخرين، فصادف مجموعة من 14 بدوياً، بينهم فتيان صغار وشباب كانوا يعملون في الحقول.
ويقول الكاتب إن المستوطنين أرغموا المزارعين على ركوب شاحنة عسكرية، واقتادوهم إلى منزل مهجور للاجئ فلسطيني يدعى عودة القواسمة، وهناك جرى "إعدام" الفلسطينيين الأربعة عشر وألقيت جثثهم داخل البيت الطيني.
وقد تعرض الضحايا للطعن بالسلاح الأبيض بعد إطلاق الرصاص عليهم للتأكد من موتهم، بحسب الكاتب، الذي أكد عدم نجاة أحد من تلك "المجزرة" باستثناء خليل محمد أبو العطار الزوايدة، الذي فارق الحياة بعد ساعات من نقله إلى بيته في الفخاري.
ويعلق الشيخ صياح الطوري بأن دولة إسرائيل "لم تعترف حتى الآن بالمجزرة، ولم تحاول الصلح مع عائلات الشهداء" رغم التعرف على الشخص المسؤول عما حدث، مضيفاً أن "مجزرة العراقيب" لم تحظ باهتمام الكثير من المؤرخين بالنظر إلى بُعدها الجغرافي عن بؤرة الأحداث آنذاك في القدس والضفة الغربية.
وينقل الدكتور أبو جابر عن السكان المحليين قولهم إن الدافع وراء ارتكاب "مذبحة العراقيب" عام 1948 هو الرغبة في زرع الخوف في نفوس الأهالي وحملهم على الرحيل والاستيلاء على أراضيهم، بينما رأتها السلطات الإسرائيلية عمليات "وقائية" لمنع التسلل من قطاع غزة إلى الداخل أو إلى جبل الخليل، و"لحمل سكان العراقيب على الامتناع عن إيواء وتقديم المساعدة للثوار الفلسطينيين"، ولحماية المستوطنات اليهودية القريبة، وفق بيان للسلطات الإسرائيلية تعقيباً على هذه الواقعة.
يقول الدكتور إبراهيم أبو جابر إن السلطات الإسرائيلية "أوهمت" السكان بإمكان العودة إلى أراضيهم بعد أشهر من تدريبات عسكرية "مزعومة" إبان الحكم العسكري عام 1951، ما دفع السكان إلى العودة إلى أراضيهم أكثر من مرة، قبل أن يهجّروا مجدداً على يد السلطات الإسرائيلية.
وما بين عامي 1952 و1953، سجلت الدوائر الإسرائيلية المختصة أراضي العراقيب التي "أجبِر أصحابها على إخلائها"، ضمن أراضي الدولة، ما عرف فيما بعد بقانون امتلاك الأراضي. وفي العام التالي، منحت الدولة أراضي العراقيب لشركة يهودية لفلاحتها.
ويعلق عزيز صياح الطوري على ذلك متهماً السلطات الإسرائيلية بـ"التحايل" لمصادرة الأراضي، موضحاً ما تناقله أهل القرية عن أهاليهم بشأن ما حدث في الخمسينيات، قائلاً إنه طُلِب من الأهالي النزوح من أرضهم نحو الشمال نصف كيلو متر لفترة من الزمن كانت نحو 6 أو 7 أشهر، "وخلال تلك الفترة، أصدروا قوانين في الكنيست تحت الحكم العسكري".
وأضاف الطوري لبي بي سي أن القانون نصّ على أن كل إنسان غير موجود على أرضه، تصبح أرضه تلقائياً أرض دولة، و"لم يكن أحد على علم بأنهم أصدروا قانوناً يسلب ملكية تلك الأراضي".
وبحسب الطوري، حين أراد سكان القرية العودة، وافق الحاكم العسكري على ذلك مقابل دفع مبلغ مالي "كإيجار" للأرض، ما رفضه أهل العراقيب قائلين "إن ذلك يعني أن الأرض ليست أرضنا، والأرض أرضنا".
وفي عام 1969، صدر ما يسمى "قانون التسوية" في النقب، الذي يقضي بمنح كل صاحب أرض ما مقداره 20 في المئة من إجمالي مساحة الأرض، والباقي 80 في المئة على شكل تعويضات مالية مقابل تنازل أصحاب الأرض عن أراضيهم، وهو ما رفضه أهل العراقيب، بحسب المؤرخ الدكتور إبراهيم أبو جابر.
