يتصاعد التنديد في تونس بتواصل المحاكمات السياسية وملاحقة المعارضين للرئيس قيس سعيّد، إذ لم تهدأ المعارضة التونسية خلال الأيام الماضية، منددة بمحاكمة المعارضين في ما يعرف بـ"قضية التآمر على أمن الدولة"، والقرار القضائي بمحاكمة عدد من المتهمين المسجونين، عن بعد، من داخل سجنهم، دون حضورهم في قاعة المحكمة. وتعد "قضية التآمر" القضية الأبرز على مدى سنتين، في سياق ما تعده المعارضة مساعي السلطات التونسية لإسكاتها عبر هذا الملف الذي يفتقر للأدلة والمحاكمة العادلة.
وبدأت، يوم الثلاثاء 4 مارس/ آذار الحالي، محاكمة حوالي 40 من الشخصيات السياسية والإعلامية ورجال الأعمال في "قضية التآمر" بعد عامين من الانتظار في سجن الإيقاف (بعض المتهمين موجودون خارج البلاد). وحضر عشرات المحامين والناشطين والمعارضين وأهالي المتهمين داخل المحكمة الابتدائية بالعاصمة وخارجها، مطالبين بإطلاق سراح الموقوفين وإنهاء الملاحقات التي تطاول المعارضين، فيما رفع بعضهم شعارات رافضة للمحاكمة، منها "محاكمة علنية.. لا سرية". وقاطع موقوفون سير المحاكمة ورفضوا المشاركة فيها من سجنهم، بينما قررت المحكمة تأجيل القضية إلى 14 إبريل/ نيسان المقبل، ورفض الإفراج عنهم.
فقد نقلت وكالة الأنباء التونسية الرسمية عن مصدر قضائي لم تسمه، في اليوم نفسه، أن "الدائرة الجنائية المختصة في قضايا الإرهاب بالمحكمة الابتدائية بتونس قررت، الثلاثاء (4 مارس/آذار الحالي)، تأخير "قضية التآمر" على أمن الدولة إلى جلسة 11 إبريل المقبل، ورفض مطالب الإفراج". وأضاف المصدر أن "الدائرة نظرت في القضية، وتمّ إجراء المحاكمة عن بُعد (بالنسبة للمتهمين السجناء)، كما حضر المتهمون المحالون بحالة سراح رفقة محاميهم".
رياض الشعيبي: هيئة المحكمة أمعنت في انتهاك حقوق الدفاع وضمانات الحد الأدنى من المحاكمة العادلة
ويواجه هؤلاء المعارضون تهماً مختلفة منها "التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي" و"الانتماء إلى تنظيم إرهابي" و"إقامة اتصالات مع جهات أجنبية". وفي فبراير/ شباط 2023 شهدت تونس حملة توقيفات شملت إعلاميين ونشطاء وقضاة ورجال أعمال وسياسيين، بينهم زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي، وعدد من قياداتها. ومن أبرز السجناء المتهمين في "قضية التآمر" أيضاً، عضو جبهة الخلاص الوطني، جوهر بن مبارك، والأمين أمين العام للحزب الجمهوري، عصام الشابي، والقيادي السابق في حركة النهضة، عبد الحميد الجلاصي، والأمين العام السابق لحزب التيار الديمقراطي، غازي الشوّاشي، والقيادي السابق في حزب التكتل، خيّام التركي، ورئيس الديوان الرئاسي السابق، رضا بلحاج. واتهم سعيّد، بعض الموقوفين في القضية بـ"التآمر على أمن الدولة والوقوف وراء أزمات توزيع السلع وارتفاع الأسعار"، وهي اتهامات تنفي المعارضة صحتها، وتتهمه بالمقابل باستخدام القضاء لملاحقة الرافضين للإجراءات الاستثنائية التي فرضها في 25 يوليو/ تموز 2021.
محاكمة عن بُعد
وكانت دائرة الاتهام المختصة بالنظر في قضايا الإرهاب بمحكمة الاستئناف بتونس، قد قررت يوم 2 مايو/ أيار 2024، إحالة 40 متهماً في "قضية التآمر" على أمن الدولة على الدائرة الجنائية المختصّة بالنظر في قضايا الإرهاب بالمحكمة الابتدائية بتونس، ورفض جميع مطالب الإفراج عنهم. فيما صدر قرار قضائي، الشهر الماضي، بأن تكون المحاكمة عن بُعد، ما قوبل برفض واسع، لا سيما من قبل جبهة الخلاص الوطني المعارضة، التي اعتبرت أن ذلك يضفي "شرعية على ما يحصل من تزوير".
وكانت حركة النهضة المعارضة، قد رفضت في بيان، قبل أيام، "هذه المحاكمة التي تشكل انتهاكاً صارخاً لضمانات المحاكمة العادلة، وتهديداً خطيراً للمسار الديمقراطي والحريات العامة في تونس". واعتبرت أن" قرار إجراء المحاكمة عن بُعد، وحرمان المتهمين من حضور الجلسة، يمثل اعتداءً واضحاً على حق الدفاع، ويكرّس سياسة التعتيم الممنهج التي تخفي حجم التلفيق والتزوير الذي شاب الملف، خصوصاً في ظل فرار القاضي الذي تعهّد به خارج البلاد (في إشارة إلى قاضي التحقيق سمير الزوابي)".
وشدّدت "النهضة" على أن "قضية التآمر" تمثل "تصعيداً غير مسبوق في استهداف المعارضة السياسية عبر ملفات تفتقر إلى الحد الأدنى من المعايير القانونية والعدالة الإجرائية، وهي جزء من سياسة عامة تهدف إلى تصفية كل الأصوات المعارضة للسلطة القائمة، في محاولة لإعادة البلاد إلى مربع الحكم الفردي".
كذلك أعلنت "هيومن رايتس ووتش"، في بيان الأسبوع الماضي، أنها "راقبت المحاكمة واطّلعت على قرار ختم البحث في 140 صفحة، الذي أصدره قاضي التحقيق ـ ما يسمح بإحالة القضية إلى المحاكمة ـ والذي يُظهر أن هذه التهم الخطيرة تبدو بلا أساس، وغير مبنية على أي دليل موثوق". إلا أن بعض المتهمين، وفق البيان "ما يزالون قيد الإيقاف التحفظي منذ عامين، ما يتجاوز الحد الأقصى المسموح به بموجب القانون التونسي"، مضيفاً أنه "في حال إدانتهم، يواجهون عقوبات قاسية تصل إلى الإعدام".
واعتبرت المنظمة أنه يتعين "على السلطات التونسية وقف استخدام التهم المنتهِكة ضد من ينظر إليهم بوصفهم منتقدين، وضمان محاكمة عادلة لجميع المتهمين، تشمل القدرة على المثول شخصياً". وتابعت: "لكن قبل كل شيء، عليها وضع حد لهذه المهزلة عبر الإفراج فوراً عن جميع المحتجزين تعسفاً في هذه القضية، وإسقاط التهم التعسفية عن جميع المتهمين".
إفشال الجلسة الأولى في "قضية التآمر"
في هذا الصدد قال القيادي بحركة النهضة وجبهة الإنقاذ، رياض الشعيبي، وهو أحد الملاحقين في هذه القضية لكنه بحالة سراح، إنه "بالنسبة لنا كمتهمين في حالة سراح في هذه القضية، فقد حضرنا الجلسة الأولى رغم عدم توجيه المحكمة استدعاء لنا، وعبّرنا عن استعدادنا لحضور المحاكمة شريطة السماح للمعتقلين بحضورهم الفعلي في قاعة المحكمة، ورفضنا تغييبهم ومحاكمتهم عن بُعد". وأضاف في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "هذا الموقف جاء في تناغم مع موقف المعتقلين الذين قاطعوا إجراء المحاكمة عن بُعد وعبّروا عن رفضهم له، وفي انسجام أيضاً مع مطالب هيئة الدفاع التي تمسكت بهذا المطلب".
وبحسب الشعيبي فإنه "كما كان متوقعاً لم تراجع هيئة محكمة قضية التآمر الخروقات العديدة التي اكتنفت هذه القضية منذ انطلاقها، بل أمعنت في انتهاك حقوق الدفاع وضمانات الحد الأدنى من المحاكمة العادلة بأن اتخذت قرار المحاكمة عن بُعد للمعتقلين، بما يشبه المحاكمات السرية". ولفت إلى "أن احتجاج المحامين والعائلات والمتهمين في حالة سراح، كان قوياً على هذا الصعيد". وفي إشارة على هدف السلطة من المحاكمة عن بُعد، رأى أنه "تأكد لكل المتابعين أن السلطة باتت خائفة من اكتشاف الرأي العام لخواء الملف وضعفه، وراغبة في تمرير الأحكام الظالمة ضد المتهمين من السياسيين المعارضين لها دون أي ردود فعل سياسية أو حقوقية محتملة".
لكن وقائع الجلسة الأولى أفشلت هذا المخطط، وفق الشعبي، وأبرزت "الطابع الكيدي لهذا الملف القضائي/السياسي، وأحرجت السلطة عندما بينت تهافت (تتابع) التهم. وتدخل السلطة السياسية بشكل مباشر في مجريات القضية". وبرأيه فإنه "الآن وبعد أن ترسخت القناعة لدى كل المتابعين بأن هذه القضية ليست أكثر من واحدة من عديد القضايا السياسية التي أثارتها السلطة وغلفتها بغلاف الإرهاب لإقصاء معارضيها وفرض سلطة الأمر الواقع على الجميع، فقدت هذه المحاكمات شرعيتها وفقدت أحكامُها أي قيمة قانونية أو أخلاقية، لأنها أحكام سياسية لا غير".
وعن التوقعات بخصوص الجلسة الثانية المنتظرة في إبريل المقبل، قال الشعيبي: "إنا ننتظر قرار المحكمة التي لم تبت في مطلب الدفاع بإلغاء إجراء المحاكمة عن بُعد، وبناء عليه سنحدد موقفنا من الحضور من عدمه".
سمير ديلو: أبسط شروط المحاكمة العادلة غير متوفرة
بدوره، رأى عضو هيئة الدفاع عن المعتقلين السياسيين، المحامي سمير ديلو، أن "أبسط شروط المحاكمة العادلة لم تتوفر في المحاكمة الأولى، خصوصاً أنها تتعلق بمسألة خطيرة وهي التآمر على أمن الدولة"، مضيفاً في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "المألوف في قضايا التآمر السابقة في تاريخ تونس فإن خيوط المؤامرة تكون سرية، وبرغم ذلك فإنها تخضع لمحاكمة علنية تعرض حتى على التلفزيون للتنديد بالمتآمرين". غير أن ما حدث هذه المرة، وفق ديلو، أن "المؤامرة المزعومة علنية لأن أغلب اللقاءات بين القادة السياسيين الملاحقين كانت علنية وتم الحديث عنها في وسائل التواصل الاجتماعي وفي وسائل الإعلام، بينما جلسة المحاكمة تمت في غياب المعنيين بالأمر"، معتبراً أن "كل هذا يجعل شروط المحاكمة العادلة غير متوفرة".
ورأى أن "كل محاكمة سياسية تُحرج من يقف وراءها"، موضحاً أن ما حدث بعد الجلسة الأولى، هو أن السردية التي تكوّنت منذ بدء الإيقافات في قضية التآمر "لم تنجح رغم بعض محاولات المحسوبين على السلطة". وأضاف أنه "إن كان هناك تآمر فهو تآمر السلطة على المعارضة من خلال هذا الملف وليس تآمر المعارضين أو تخابرهم مع جهات أجنبية". أما بخصوص الجلسة الثانية المنتظرة، فبيّن ديلو أنه "لا ينتظر الكثير من الجلسة الثانية"، لافتاً إلى أن "السلطة قد تتراجع عن قرار المحاكمة عن بُعد لأنه غير مبرر، إذ لا أحد بإمكانه الحديث عن خطر ملم أو داهم أو يضع أي مبرر لهذا الإجراء الاستثنائي، لأن المتهمين لا يشكلون أي خطر".
وأكد أن "المحامين سيواصلون الإصرار على حضور منوبيهم الذين تم تغييبهم، فيما قد يحصل تراجع لكن ليس خلال الجلسة الثانية"، مضيفاً أنه "إن لم يحصل ذلك فستكون مهزلة لا محاكمة، لأنها ستكون في غياب المتهمين وربما غياب المحامين أيضاً".
وبخصوص ما راج حول إمكانية تدويل القضية، قال ديلو إنه "لا يزال من المبكر الحديث عن تدويل القضية"، مضيفاً أن "جل المتهمين قاطعوا الجلسة عن بُعد، ومن يريد التعتيم فهو الذي يخشى الحقيقة"، مضيفاً في الوقت نفسه أن "انعكاس ما يحصل ليس إيجابياً، أي أن تعيش تونس على إيقاع المحاكمات السياسية وقضايا الرأي". وأوضح أنه "عوضاً أن يدلي هؤلاء (المعتقلون) بمقترحاتهم في الشأن الاقتصادي وفي القضايا الدولية يتم سجنهم"، معتبراً أنه "من المفروض أن نكون قد تجاوزنا ذلك، ومن المعيب أن تعيش تونس قضايا سياسية".
