لم تعد العلاقة الوطيدة بين الدار البيضاء والسينما بحاجة إلى إثبات، لشدّة ترسّخ صُوَر هذه الحاضرة في ذاكرة السينما المغربية، التي تدور غالبية الأفلام في رحابها، وفي السينما العالمية، إذْ تُعدّ من أكثر مدن العالم تصويراً، باعتبارها فضاءً لقصصٍ كونية، ولها قدرة فائقة على تقمّص ملامح وشخصيات مدن عربية وشرقية أخرى. ولعلّ اختلاط الواقعي بالأسطوري، في علاقة المدينة بالفيلم الكلاسيكي "كازابلانكا" (1942)، للأميركي مايكل كورتيز، يُلخّص كيف أنّ رابط التأثير والتأثر بينها وبين السينما يتّخذ منحيين. فكما تأثّرت الفضاءات، حيث تدور القصص، بروح المدينة الأطلسية، يحمل معمار هذه الأخيرة في طياته رؤى من خلّدوها في ذاكرة الفن السابع في عقود.
ينطلق كتاب "سيني ـ كازابلانكا" ("نشر الفنك"، 2024)، المؤلَّف المهمّ لربيعة ريضاوي (مكوّنة ومُنشّطة ثقافية) ورولان كاري (باحث متخصّص بالسينما)، من تحليل العلاقة الأسطورية بين المدينة وصورتها في السينما، مُستعرضاً، بخلفية بحثية رصينة وتفاصيل غنيّة، مختلف أنظمة تَمَثّل كازابلانكا في السينما، منذ أول اللقطات المأخوذة لقصف الدار البيضاء، بقيادة فرنسا، عام 1907، بواسطة مبعوث الأخوين لوميير فيليكس ميزغيش، إلى الأفلام الطويلة المُنجزة عام 2023.
خصوصية
تكمن خصوصية الكتاب، أولاً، في قَبْضِه على تنوّع التأثيرات المعمارية التي تزخر بها الحاضرة، انطلاقاً من المدن الإمبراطورية، كمراكش وفاس (حي الحبوس تحديداً)، مروراً بالجانب التقليدي لـ"المدينة القديمة"، والأحياء التاريخية كـ"الحي المحمدي" و"درب السلطان"، إلى فن "آر ديكو" الذي يميّز وسط المدينة، وانتهاءً بالأقطاب المالية الجديدة، وسماتها الحديثة. والجذاذات المائة، المُخصّصة بالأفلام (يذكر المُؤلَّف 250 فيلماً)، تركّز على التمفصلات بين سمات هذه الأماكن ومقاربات الفضاء المُتّبعة من طرف المخرجين، بفضل الحيّز الأساسي الممنوح للصُوَر، ومجهود تحديد الفضاءات التي تدور فيها المشاهد (فنادق، مقاهٍ، شوارع، أزقّة... إلخ)، ما يضعنا أمام مرجع أساسي في تاريخ السينما المغربية والسينما في المغرب، وأمام دليل غنيّ عن الفضاء البيضاوي بعيون السينما، والتحوّلات التي شهدها في قرن كامل، مستفيداً من خبرة ربيعة ريضاوي ناشطةً ورئيسةً سابقةً لجمعية "كازا ميموار" المهتمّة بالحفاظ على التراث المعماري المغربيّ.
اعتمد الكاتبان، في اختيارهما الأفلام، على معايير عدّة تراعي التنوّع في الفئة (أفلام قصيرة ومتوسطة وطويلة، أفلام وثائقية)، والنوع (كوميديا، دراما، تجسّس، تجريب... إلخ)، والبلدان المنتجة، ورؤى الإخراج. لكنّ القرار المهمّ، والمُتحمّلة عواقبه، كامنٌ في عدم الاعتماد على معيار الجودة الفنية، لاعتبار أنّ هناك أفلاماً جيدة، ومُحتفى بها نقدياً، لم تقل أشياء مهمة عن فضاء الدار البيضاء، بينما أخرى مغمورة، أو زاخرة بالهفوات، تناولت فضاء المدينة ـ الغول بطريقة مثيرة للاهتمام. ولعلّ أبرز مثال على هذه الحالة الأخيرة "هجوم على الثلاثة الكبار" (1967)، للإيطالي أومبيرتو لينزي (فيلم "فئة ب")، الذي يدور جزء من أحداثه في الفندق الأسطوري "أنفا"، حيث انعقد "مؤتمر أنفا" التاريخي، قبل أنْ يُسوّى الفندق بالأرض في سبعينيات القرن الـ20.، ما يدلّ على قدرة السينما، التي لا يضاهيها فيها فنّ آخر، في التقاط سحر الأماكن قبل اختفائها، أو إجراء تغييرات جوهرية عليها.
في الكتاب، ثلاثة فصول، يسبقها تقديم ملهم من المخرجة صوفيا علوي: "كانت الدار البيضاء مدينة ذات أسماء عّدة. سُمّيت "أنفا" في عهد برغواطة (نهاية القرن الـ17)، قبل أنْ يطلق عليها المستعمرون البرتغاليون اسم "كازا برانكا" (بين القرنين 16 و18)، ثم "دار البيضاء" بناء على رغبة السلطان العلوي سيدي محمد بن عبد الله (1770)، ثم "كازا بلانكا" مع التجار الإسبان (القرن الـ19). وطّد الفرنسيون اعتماد الاسم الإسباني، حتى قبل عقد الحماية وتشييد المدينة الأوروبية"، كما كتبت، مُضيفة أنّ "مسألة الازدواجية في صميم هوية المدينة". وأشارت إلى أنّه "يتمّ تَمثّل المدينة البيضاء غالباً "رمزاً للمغرب العربي وثقافته وحداثته".
القسم الأول، "الدار البيضاء: مدينةـ حلم"، خاص بفترة سينما البروباغندا الاستعمارية، أو سينما "الغلامور الهوليوودي"، التي اتّسمت غالبيتها بالنمطية والفولكلورية في تعاملها مع الفضاء، خاصة تلك المُصوَّرة بالاستديوهات، واقتصر دور المغاربة فيها على كومبارس أو أطياف تعيش على خلفية الشخصيات الرئيسية. كما يضمّ أفلاماً كـ"ليلة في الدار البيضاء" (1946)، للأميركي آرشي مايو، مع الإخوة ماركس، الذي احتوت جذاذته على رسالة بالغة الظرافة، وجّهها غروشو ماركس إلى شركة "وارنر براذرز"، حين هدّدت منتجي الفيلم بالمتابعة القضائية بحجة امتلاكها حقوق كلمة "كازابلانكا" لإنتاجها فيلم كورتيز، يتساءل فيها غروشو: هل ستقوم الشركة باتباع المبدأ نفسه، بادّعاء ملكية حقوق كلمة "إخوة"؟"، ويختمها بـ"من وجهة نظر مهنية محضة، كنّا إخوة قبلكم". هذا يعكس جانباً جذّاباً للمؤلّف، يتناول طرائف عمليات التصوير، وجوانب أخرى تتعلّق بتمثّل فضاءات المدينة.
حساسيات مغربية
القسم الثاني، "الدار البيضاء: مدينة قاطرة"، يتطرّق إلى فترة بزوغ الحساسيات المغربية في تصوير المدينة، مع "الابن العاق" (1958)، لمحمد عصفور، رغم أنّ تجارب عدّة ظلّت، على أهميتها، منحصرة في نموذج الفضاء الذي ينتقل إليه البطل قادماً من محيط قروي بحثاً عن الاندماج، أو تحسين وضعه الاقتصادي، كما في "شمس الربيع" (1969) للطيف لحلو، أو الإخراج الجماعي لـ"رماد الزريبة" (1976)، والفيلم الموسيقي "الحياة كفاح" (1968)، لمحمد التازي وأحمد المسناوي. المفاجأة الجميلة التي حملتها هذه الفترة انبراء مجموعة مخرجين، دخلوا إلى "المركز السينمائي المغربي" موظّفين بعد عودتهم من رحلة دراسة السينما في الخارج لإنجاز أفلام وثائقية مهمّة، منها جواهر قصيرة ومتوسّطة، طبعت السينما المغربية، كفيلم المونتاج "ستة وإثنا عشر" لأحمد البوعناني ومجيد رشيش وعبد الرحمن التازي، الذي يرافق المُشاهد في رحلة إيقاعية وحسية بين فضاءات الدار البيضاء، منذ استيقاظها في السادسة صباحاً إلى الثانية عشرة ظهراً، أو "ذاكرة 14" لأحمد البوعناني، عن السعي إلى الانعتاق من وطأة ذاكرة الاستعمار ومتاهاتها.
يضمّ هذا الفصل جذاذات أساسية عن تجربة مصطفى الدرقاوي في تصوير الدار البيضاء في جُلّ أفلامه، وأعمال مفصلية كـ"الحال" (1981) لأحمد المعنوني، و"حلاق درب الفقراء" (1982) لمحمد الركاب، و"بيضاوة" (1998)، الفيلم الجميل لعبد القادر لقطع، الذي يسبر أجواء سنوات الرصاص بتفرّد، بفضل تقاطع ثلاث قصص في فضاءات المدينة.
أمّا الثالث، "الدار البيضاء: مدينة عالم"، فيبدأ بالفيلم المصفوفي "علي زاوا" (2000) لنبيل عيوش، والمؤثّر جمالياً، والدّال بعنوانه "كازانيغرا" (2008) لنور الدين لخماري، إلى "أبي لم يمت" (2023) لعادل الفاضيلي، لالتقاط ملامح الفترة الأغنى (56 جذاذة)، حين غدت الدار البيضاء، بالتوازي مع تطوّرها الاقتصادي والعمراني، انعكاساً لمغرب متعدّد الأوجه والروافد، مع كل ما ينطوي عليه ذلك من مفارقات وتباين في أساليب ومستويات المعيشة.
من أهم تجارب هذه المرحلة، اللقاء الجمالي الفارق بين الدار البيضاء وفوزي بن السعيدي في "يا له من عالم رائع" (2006)، الذي تُزيّن إحدى أجمل صُوره غلاف الكتاب؛ والمنجز الكبير لهشام العسري، الذي صوّر جلّ أفلامه في الحاضرة الأطلسية، مخضِعاً فضاءاتها لرؤيته، بكلّ الألوان والتنويعات السياسية والاجتماعية الملهمة بجرأتها وتطلّبها الجمالي.
كما ازدادت في الفترة نفسها وتيرة تصوير الأعمال الأجنبية في المغرب، وأضحت هوية "كازا" المتعدّدة امتيازاً يُمكنها من التنكّر في زي مدن من كل جهات المعمورة: الجزائر وعمّان وبيروت والقاهرة، كما في فيلم السويدي طارق صالح، "حادث النيل هيلتون" (2017).
صُور وحقوق ملكيّتها
ينبغي التنويه بمجهود البحث، والحصول على حقوق نشر صُور الأفلام من مالكيها، أو ذويهم. وهذا تكلّل بالنجاح في أغلب الحالات، مانحاً الكتاب بُعداً مشهدياً جذّاباً وعملياً، مع الإضافة المهمة التي شكّلها الاعتماد على صُور الفنانة المغربية سكينة البلغيثي، التي منحت بصورها، المتمحورة حول شكل الفضاءات في الزمن الحالي، مقارنة بزمن الأفلام، سُمكاً جمالياً مؤثّراً.
حتى في الحالات التي لم يتمكن فيها الكاتبان من الحصول عل حقوق الصُور، تفاعلا مع هذا العائق باختيار ذكي تارة، وساخر تارة أخرى، كما في جذاذة "مهمة مستحيلة: أمّة مارقة" (2015)، للأميركي كريستوفر ماكويري، حين أدرجا إعادة تمثيل صورة لقطة قفزة السيارة على خلفية مسجد الحسن الثاني، مع مُجسّم صغير يرافقها تعليق: "في ظلّ عدم توفرنا على تصريح لنشر صورة من الفيلم، نستخدم سيارة خشبية صغيرة لإعادة إنتاجها. في نهاية المطاف، لا شيء أكثر انسجاماً من هذا مع فيلم "تنميق" يعشق تحطيم السيارات كأنّها ألعاب أطفال".
في نهاية الكتاب، نصوصٌ ملحقة. أولها لأحمد البوعناني بعنوان: "مدينة بالأبيض والأسود: كازابلانكا"، مُقتطف من مؤلَّفه "الباب السابع: تاريخ السينما في المغرب: من 1907 إلى 1987" (2023)، يليه بوحٌ مؤثّر لأحمد المعنوني عن فترة دراسته في الثانوية، بعنوان "عبوري الدار البيضاء، خارجي ليلاً"، عن ليلة قطع فيها المدينة مشياً على القدمين للعودة إلى منزل خاله، انطلاقاً من المسرح البلدي (المأسوف على هدمه) وسط المدينة، إلى "درب الكبير"، بعد حضوره عرضاً ترك أثراً كبيراً في نفسه، اختار بفضله الفنّ وسيلةَ تعبير.
هناك أيضاً نص مقتضب لهشام العسري، مرفق برسومات له عن أجواء المدينة، مستلّة من قصته المصوّرة "مارّوك" (2019)، ثم صُور التقطها المخرج الشاب إلياس الفارس بين عامي 2005 و2021، مع تعليق يوضح بذاتية فنية حجم التغييرات التي عرفتها البيضاء في هذه الفترة القصيرة. ويُختم المؤلَّف بفهرسين عمليين للغاية: أحدهما خاص بالأفلام، والآخر بـ"الأماكن، البنايات والمآثر".
لا ينقص الكتاب إلا فهرس للمخرجين، نأمل أنْ يُضاف في الطبعات المقبلة.
