كريس هيدجز... أو الإبادة في غزّة

منذ ٢ أيام ٢٣

يقدّم الصحافي والكاتب الأميركي كريس هيدجز (Chris Hedges)، في كتابه الجديد "الإبادة المتوقّعة... الكتابة الصحافية عن النجاة والمقاومة في فلسطين المحتلة" (AGenocide Foretod: (Reporting on Survival and Resistance in Ocupied Palestine وقد صدر في نيويورك أخيراً (2025) عن "Seven Stories Press" تقارير طويلة كتبها في غضون الحرب الدائرة على غزّة، منطلقاً من نقاشاتٍ وشهاداتٍ وحواراتٍ مختلفة، محاولاً تسليط الضوء على ما يتعرّض له الفلسطينيون في غزّة من تقتيل وتهجير. ويبدو أن تلك التقارير كُتبت في الأساس لنشرها في الكتاب، وهي تقدّم نموذجاً متيناً لصياغة التقارير الطويلة المستندة إلى مناقشة فكرة واحدة يمكن اختصارها بإعادة صياغةٍ لخبرٍ يُتداول في الأخبار. وبذلك، يعرض هيدجز، الذي ينتقل من تحليل الأخبار وتقديمها في صورة مختلفة إلى نقد الأفكار والصياغات الشائعة، للحرب في غزّة من زوايا مختلفة ومتعدّدة، لكنّها تساهم كلّها في تسليط الضوء على حجم الكارثة.

يدافع هيدجز عن فكرة أن ما يحدث في غزّة هو إبادة ويشبه إلى حدّ كبير كلّ الجرائم الكبرى في التاريخ

يحفل الكتاب (208 صفحات) بالنقاش عن الحرب الدائرة ضدّ شعبنا الفلسطيني في غزّة، فينتقل بالقارئ من رحلة ميدانية في رام الله خلال الحرب للاقتراب أكثر من الواقع الفلسطيني ولمعايشة تأثير الحرب الدائرة على الضفة الغربية، إلى استعادة زيارة سابقة له إلى غزّة قبل عقدَين، حين كان مراسلاً لصحيفة نيويورك تايمز، ثمّ إلى تظاهرة في جامعة كولومبيا ضدّ الإبادة، ليفيض بالحديث عن القمع الذي يتعرّض له طلاب الجامعات في الولايات المتحدة، إلى تحليل أفلام وبرامج وثائقية تتعرّض لتأثير اللوبي الصهيوني في صنع القرار العالمي، خاصّة في الغرب. ذلك كلّه ليدافع هيدجز عن فكرة أن ما يحدث في غزّة إبادة، ويشبه، إلى حدّ كبير، كلّ الجرائم الكبرى في التاريخ من مذابح التصفية في العالم الجديد إلى الهولوكوست. وهو يتوقّف كثيراً عند محاولات نفي صفة الإبادة أو الخوف من تشبيه ما يجري بالمحرقة ومقارنته بما قام به هتلر بحقّ اليهود، ويستشهد بمذكّرات بعض قادة المقاومة اليهودية في مخيّمات الاعتقال النازية، وموقفهم من الحركة الصهيونية، ورفضهم فكرة سرقة فلسطين من الفلسطينيين. يستعين هيدجز تحديداً بقصّة صديقته إلينا مارغوليس إدلمان وزوجها مارك إدلمان، اللذَين قادا المقاومة في غيتو وارسو خلال الحرب العالمية الثانية. كان مارك يعتبر الصهيونية أيديولوجية عنصرية تُوظَّف لتبرير نهب أراضي الفلسطينيين، ومارك كان قد ناضل ضدّ استخدام إسرائيل للهولوكوست لتبرير قمع الفلسطينيين، وكما يقول هيدجز، فإن فكرة وجود إسرائيل استعمارية وجدت قبل سنوات من مذابح الهولوكوست.
لا مفاجآت في غزّة، فكلّ فعلٍ مرعبٍ وكلّ عملية قتل وإبادة قامت بها إسرائيل في غزّة خطّط لها مسبقاً، والأمر يستمرّ منذ عقود. سلب الفلسطينيين أرضهم هو القلب النابض للمشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي كما يرى هيدجز. والملفت أنه يقوم بذلك من دون تردّد أومن دون محاولة للتبرير كما يفعل كثيرون في الغرب، حين يتحدّثون عن الحق الفلسطيني، فهو لا يقدّم تبريراً ولا يبدو متردّداً وهو يقول إن ما يجري في غزّة لا يختلف كثيراً عن الهولوكوست، وإن اللوبي الصهيوني يسرق إرادة الشعب الأميركي، أو أن الغرب متواطئ في جرائم غزّة، ليس بسبب عجزه عن وقفها، بل لأنه مشاركٌ في الأساس في المسألة الفلسطينية منذ بدايتها، حين ساعد في وقوع نكبة الشعب الفلسطيني. هيدجز صاحب موقف يدفع به إلى ذروة القناعة، هذا كلّه عبر تحليل وعرض منطقي يتّسم بالبساطة والسلاسة وقوة الاندفاع. مثلاً، يستعيد كريس هيدجز لقاءً جمعه بالشهيد الذي كان قيادياً في حركة حماس، عبد العزيز الرنتيسي، الذي أخبره عن مذبحة خانيونس عام 1956، حين قتل عمّه مع 275 فلسطينياً آخرين. يقول الرنتيسي: "لم أتمكّن من النوم لأشهر بعد ذلك. لقد ترك الأمر جرحاً في قلبي لا يمكن أن يُشفى. مثل هذه الجرائم لا يمكن نسيانها. لقد زرعوا الحقد في قلوبنا". في التقرير المعنون بـ"ذهان الحرب الدائمة"، يحلّل هيدجز التوجّه إلى محكمة العدل الدولية، من خلال مقاربة للأفكار المطروحة للتعامل مع انتهاكات إسرائيل، وللجرائم التي ترتكبها بحقّ الفلسطينيين. بالطبع، غاية هيدجز التأكيد على مشروعية التوجّه إلى المحكمة، ووجوب إدانة جرائم إسرائيل. وهو ما يواصل الكتابة عنه في الفصل السادس المعنون بـ"محو الفلسطينيين"، فيركّز في فكرة الإبادة، وفعل المحو ممارسةً دائمةً ومستمرّةً في العنف الصهيوني ضدّ الفلسطينيين. يقول هيدجز، إن محو الفلسطينيين كلياً عبارة رائجة في الوعي السياسي الإسرائيلي منذ نشوء دولة إسرائيل. ولتعزيز هذا القول، لا يكتفي بسرد ما جرى (وما يجري) مع الفلسطينيين، بل يحاول مقارنته بما جرى في أماكن أخرى من واقع خبرته وتغطيته الصحافية. مثلاً، يعرض ما رآه خلال حصار سراييفو، ويعتبر ما جرى هناك جرائم ضدّ الإنسانية. في المجمل، لا يمكن مقارنة ما يجري في غزّة بأيّ شيء آخر في التاريخ الذي نعرفه، فالحصار في غزّة لا ينتج عنه مقتل بضعة أفراد يومياً كما كان الحال في سراييفو، بل العشرات والمئات يموتون يومياً بسبب القتل وبسبب نقص الغذاء والدواء.

يجادل هيدجز أن استخدام العنف في المقاومة أمرٌ متوارثٌ في التاريخ

الهولوكوست ليست تعويذة تاريخية، فما زالت مستمرّةً. يصرخ هيدجز: لماذا نخاف من التشبيه؟، كما لا يفوّت أن يذكّرنا بالحقيقة التي تغفلها الأخبار؛ ففيما تجري الإبادة في غزّة يُغطّى التصعيد والعنف ضدّ الفلسطينيين في الضفة الغربية.
ولا يفوت كريس هيدجز الحذر أيضاً عند التعاطي مع حدث 7 أكتوبر (2023)، فهو لا يريد أن يبدو مدافعاً عمّا قامت به حركة حماس في ذلك اليوم، لكنّه أيضاً يدعو القارئ إلى التمعّن جيّداً فيما جرى ضمن المسار العام لما يتعرّض له الفلسطينيون من جرائم. ثمّة دوافع قد تقلّل من ردّة الفعل الغربية ضدّ ما حدث في السابع من أكتوبر. وهيدجز يقترب من هذه الفكرة بحذر، إذ يستعين بكتابات مؤلّفين سابقين كتبوا قبل الحرب عمّا تتعرّض له غزّة، مثل جيف هالبر وكتابه "الحرب ضدّ الشعب"، وكتاب نورمان فينكنشتاين "غزّة... بحث في فكرة شهادتها".
يتعمّد هيدجز الإشارة أيضاً إلى ما ارتكبه الجيش الإسرائيلي بشهادة المستوطنين من فظائع خلال محاولته صدّ الهجوم الفلسطيني، إذ قُتل عشراتٌ من الإسرائيليين في محاولة التخلّص من المقاتلين الفلسطينيين. إن كتابةً صحافيةً محترفةً وغير منحازة يمكن أن تكشف الكثير، وتقدّم صورة أكثر اتزاناً عن واقعة ذلك اليوم. إلى جانب ذلك، يجادل هيدجز أن استخدام العنف في المقاومة أمرٌ متوارثٌ في التاريخ. وللتدليل على ذلك، يقتبس قصصاً من مقاومة اليهود المعتقلين في معتقل سوبيبور النازي في بولندا. من أبرز تلك القصص قصّة حاييم إنجل، وروايته عن كيفية قتل الضابط الألماني طعناً بالسكاكين. أيضاً مذكّرات مارغريت دوراسي "ذكريات الحرب"، وكيف عَذّبتْ ورفاقُها في المقاومة الفرنسية متعاوناً فرنسياً مع النازية عمره 55 عاماً. وفيما يجري امتداح هذه الأفعال عبر التاريخ، رغم قسوتها وبشاعتها، يُدان أيّ تصرّف فلسطيني يُعتبر غير لائق خلال المقاومة. هذا كلّه يجري بقصدٍ وبوعي. مثلاً، تُنسى في الخطاب العام والنقاش الواسع (بداية الحرب) كلّ فظائع الجيش الإسرائيلي ضدّ الفلسطينيين، ويُتعامل معها، حتى في الدوائر الغربية، بوصفها أمراً طبيعياً، فيما لا شيء يبدو طبيعياً في ما يقوم به الفلسطينيون من مقاومة، فالتقرير الذي يحمل اسماً مثيراً مقتبساً من التاريخ الغربي "ثورة الزنوج"، يستعرض واقع غزّة عشية السابع من أكتوبر، وما تعرّض له القطاع طول العقود الماضية من سياسات تجعل الحياة فيه مستحيلةً، وتجعل ما جرى في ذلك اليوم ردّة فعل يمكن توقّعها.
وكما يذكر في التقرير التاسع المعنون بـ"العنف المقدّس"، أنه في مواضع كثيرة تدخّل العالم لوقف المذابح من التدخّل في العراق، إلى وقف المذابح بحقّ الأكراد، إلى التدخّل في كمبوديا ضدّ الخمير الحمر، أمّا في الحالة الفلسطينية، فليس أكثر من الإدانة ومطالبة الأطراف بالهدوء، وكما يقول هيدجز في إدانة للوعي والسلوك الغربيَين، فإن الإبادة تكون شرّاً حين ينفّذها أعداؤنا، ولا مانع من استمرارها حين يقوم بها حلفاؤنا.
يختار هيدجز قصّةَ استشهاد الشاب عمرو عبد الله (17 عاماً) ليعرض للكيفية التي تضع فيها إسرائيل حلّاً لأحلام الفلسطينيين. وكريس هيدجز، الصحافي المتمرّس، يقدّم تقريراً مفصّلاً عن استشهاد عبد الله من خلال لقاء وحوار يجريه مع عمّه عبد الباسط في نيوجيرسي في الولايات المتحدة. يكشف هيدجز عبر شهادات ينقلها مباشرةً من بعض أفراد العائلة عبر التواصل من خلال العمّ عبد الباسط عن واقع الحياة المريرة في الخيام، وما يعيشه الفلسطينيون هناك، خاصّة في فصل الشتاء والتنقّل الدائم. إن حجم ما ترتكبه إسرائيل من مجازر غير مسبوق، فخلال عام ألقت إسرائيل 38 ألف طنّ متفجّرات على غزّة، وهذا أكثر من كلّ القنابل التي ألقيت على دردسن وهامبرغ ولندن خلال الحرب العالمية الثانية. إن استعراض بعض المذابح التي تقوم بها إسرائيل ضدّ المدنين يدلّل على هول الكارثة. مرّة أخرى، هذا ليس جديداً، فإسرائيل تقتل وتذبح الشعب الفلسطيني منذ وجودها. المشاهد نفسها يمكن ملاحظتها عبر السنوات، فخلال زيارته غزّة عام 2001 خبر هيدجز وشاهد قصصاً موجعةً عن القتل والقصف أيضاً، ومشاهد الجثث المتفحّمة في السيارات المقصوفة هي نفسها المشاهد التي نراها اليوم في غزّة، كانت موجودة خلال عام 2001. وإسرائيل تتلاعب وتبدع الحيل من أجل نزع أيّ صفة مدنية عن أيّ شخص، أو أيّ مبنىً، حتى تقتله وتدمّره، يشمل هذا المشافي والمساجد والكنائس والمدارس. ويعيد هيدجز تذكيرنا بما حدث عند قصف المستشفى المعمداني في غزّة، وكيف حاولت إسرائيل إقناع العالم بأن الانفجار ناجم عن صواريخ فلسطينية محلّية.

يحمل كريس هيدجز العمل الصحافي إلى مصاف صناعة الأفكار، ويدافع عن أفكاره بمهارة الصحافي الذي يرى الحقيقة ويكتب عنها

في كتابه هذا، ينتقل هيدجز من مناقشة كتاب إلى تحليل تقرير تلفزيوني إلى مقابلة أجراها مع شاهد عيان إلى فيلم... ذلك كلّه عبر سرد متواصل وسلس. فهو لا يكتب تقريراً، بل يحمل العمل الصحافي إلى مصاف صناعة الأفكار، ويدافع عن أفكاره بمهارة الصحافي الذي يرى الحقيقة ويكتب عنها. أسلوب كريس هيدجز مميّز، إذ يدمج حواراته الصحافية مع الآخرين في سرد مشوّق عن واقع الحال. وخلال ذلك نسمع أكثر من صوت في السرد الصحافي، كما أنه يقدّم تفكيكاً لحرب الأفكار التي تشنّها الصهيونية لإبطال مفعول أيّ فعل فلسطيني مضادّ للمحو والتزييف، كما يقدّم تحليلاً لحربها على حركة المقاطعة. ما يقوم به هيدجز في بعض تقاريره هو البحث العميق في الوعي والفكر من أجل فضح الفكرة الفاسدة وتسليط الضوء على الفكرة السليمة، مستعيناً بكتابات سابقة وتقارير جرى نشرها، مثل من يصوغ فكرة عميقة من مجموعة أفكار مختلفة ومتناثرة. خلال ذلك، نجد استعارات من حنّة أرنديت وجورج أورويل وإدوارد سعيد ورشيد خالدي ووالتر بنجامين.
قد يختصر وصف المشهد الأول لدخوله عبر الجسر والحوار المقتضب مع الضابط الإسرائيلي كل شيء. يسأل الضابط: "هل لديك جواز سفر فلسطيني؟ هل أحد من والديك فلسطيني؟". وكما يقول هيدجز في التعبير عن غاية هذَين السؤالَين: باختصار هل أنت غير مُلوَّث؟

قراءة المقال بالكامل