بينما تحسّن أداء القوات المسلحة السودانية باستعادة العاصمة (الخرطوم)، تذبذبت محاولات تدويل الصراع في البلاد، فعلى الرغم من مرور عامين على اندلاع الحرب بين حكومة مجلس السيادة وقوات الدعم السريع، لم تتمكّن المنظمّات الدولية أو القارّية من تدويل الوضع في السودان، وهذا ما يثير مناقشة انعكاس السياقات السياسية، خارجياً وداخلياً، على اتجاهات التدويل واحتوائه في السياسة الخارجية للأطراف المختلفة. وتساعد قراءة التوجّهات الدولية في الاقتراب من العوامل المؤثّرة على خيارات التحرّك الدولي وانعكاسه على الوضع في السودان.
(1)
على مدى العامين السابقين، تبدو هذه التجربة جديرة بالتحليل لعاملين رئيسيين؛ في مقدّمتهما، التطلّعات الأوروبية والأميركية لأن تقود المرحلة الانتقالية إلى تسليم السودان لمجموعاتٍ قريبة منها أو تفجيرها. العامل الأخر منح انتشار الصراع على مدى جغرافية السودان الفرصة لتسهيل مطالب التدويل عبر إثارة النزاع بين حكومتين بوصفه ثغرة لإطالة مدى الحرب.
منذ اجتماع جدّة، انشغلت مصر بوقف الحرب ومعالجة انقسام العسكرية السودانية واستعادة المرحلة الانتقالية
منذ تمرّد "الدعم السريع"، ارتبطت مسيرة الحرب بالخلاف على تعريف الصراع ما بين فريقين؛ إذ تتبنى مصر والسعودية وبعض دول جوار السودان تعريفه أزمة داخلية تجري أحداثها تحت مظلّة مجلس السيادة، فيما تُعرّفه الولايات المتحدة ومعها أوروبا وبعض دول الهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد) صراعاً بين طرفين لا يتمتّعان بالمشروعية. في ظلّ هذه الأجواء، انعقد اجتماع جدّة في مايو/ أيار 2023 بمشاركة مصر والسعودية والولايات المتحدة، بحضور ممثلي كل من مجلس السيادة والدعم السريع، لاحتواء التداعيات واقتراح سُبل الدعم الإنساني ووقف الحرب، غير أنه مع ضعف الالتزام بمقرّراته، انتهت الاجتماعات الخاصة به في أكتوبر/ تشرين أوّل 2023، لتظهر مساراتٌ أخرى تحت إطار دول الجوار والنطاق الأفريقي، بجانب مجلس الأمن ومشاورات جنيف بتوسيع المشاركين السودانيين.
(2)
في هذا السياق، ارتكز تعامل مجلس الأمن مع الأزمة في السودان على مسارين: الأوّل في استمرار العمل بحظر السلاح وتجميد أصول المتورّطين فيها، وفقاً للقرار رقم 1591، والذي شكّل أساس تكوين لجنة الخبراء في 29 مارس/ آذار 2005 الخاص بجرائم دارفور. والثاني، حيث بدت الحاجة لتوسيع شمول الرقابة على كلّ السودان، ليقرّر المجلس تشكيل بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان (يونيتامس)، ولكن مع تتابع اعتراض حكومة السودان على تجاوزات رئيس البعثة، بيرتس فولكر، صدر قرار مجلس الأمن (2715) بإغلاقها في 29 فبراير/شباط 2024، لينقطع الطريق على محاولات تطوير الوصاية الدولية والاعتراف بممارسة الحكومة للسيادة الكاملة.
ومع تتابع جلسات مجلس الأمن بشأن السودان، بعد وقف البعثة، ظهرت ثلاثة مشاريع قرارات، نجح في إجازة اثنين منها، تحت رقمي 2724 و2736، تمّ اعتمادهما في 8 مارس/ آذار 2024 و13 يونيو/حزيران 2024 على التوالي. تقارب محتوى القراريْن في وقف الحرب واحترام إعلان جدة في حماية المدنيين وإنهاء حصار مدينة الفاشر، من دون الحديث عن فرض عقوبات إضافية أو الانتقاص من السلطة الشرعية.
ومع ضعف القوة المُلزمة لوقف الحرب، صاغت بريطانياً مشروعاً آخر في 13 نوفمبر/ تشرين ثاني 2024 بالتشاور مع تنسيقية الأحزاب السودانية (تقدّم). وبشكل عام، أدان مشروع القرار استمرار اعتداءات قوات الدعم السريع في الفاشر وطالبها بالوقف الفوري لجميع هجماتها ضدّ المدنيين في دارفور وولايتي الجزيرة وسنار وأماكن أخرى. كما دعا أطراف النزاع إلى وقف الأعمال العدائية فوراً والدخول (بحسن نية) في حوار للاتفاق على وقف إطلاق النار على المستوى الوطني.
ظهرت تطلّعات لاستخدام المساعدات في إضفاء المشروعية على الدعم السريع
ورغم تقليدية المحتوى، استخدم مشروع القرار البريطاني مفردات للتدخل الدولي تحت الفصل السابع، بطريقة تُمهّد الطريق لصدور قرارات لاحقة بالتدخل الإنساني. وضحت هذه السياقات في تشكيل وحدة حماية للإغاثة الإنسانية، ومنها وحدة مراقبة وامتثال بوصفها آلية محكمة لضمان تنفيذ وقف إطلاق النار. وقد وردت هذه الإجراءات ضمن تنسيق دولي ـ أفريقي لا يشمل الحكومة القائمة، ما يُعدّ نافذة لتساوي النظر الدولي للحكومة والدعم السريع طرفين سودانيين لا يتمتّع أيٌ منهما بأفضلية التمثيل السياسي.
شكّل هذا الغموض مسار الجدل بين الغرب وروسيا، ليتغيّر الموقف الروسي من الامتناع إلى الاعتراض، بحيث يمنع صدور القرار رغم حصوله على تأييد 14 صوتاً. وبتحليل السلوك التصويتي لروسيا، يمكن ملاحظة امتناعها عن التصويت عندما اقتصرت القرارات على توفير الدعم الإنساني، لكنها استخدمت حقّ النقض، بعد وضوح مؤشّراتٍ على فتح الطريق للتدخل الدولي. وبصدد مشروع القرار البريطاني، اعترضت على إغفال الإشارة إلى الحكومة الشرعية المسؤولة عن أمن الحدود وحقّها في دعوة قوّات أجنبية، وهي ثغراتٌ تفتح الآفاق لإدراج الوضع في السودان تحت حالة نزاعٍ تفتح الطريق لانتهاك سيادة الدولة، إلى حدّ وصفها المندوب الروسي بتمديد للاستعمار.
وهنا، تكشف مناقشة مسوّدات مشروع القرار عن رغبة غربية في تمريره قراراً دولياً. ولذلك، لقيت الملاحظات الروسية تجاهلاً فرنسياً وبريطانياً، أدّى إلى تضاؤل فرص تقديم مشاريع قرارات أخرى، مع استعادة الجيش السوداني مدناً وقرى وتوسّع انتشاره في العاصمة المثلثة، وكان لمنح الحكومة تسهيلاتٍ عسكريةً لروسيا عاملاً مهمّاً في تحييد مجلس الأمن عن النظر لوضع السودان.
على أيّة حال، ظهرت تطلّعات إلى استخدام المساعدات في إضفاء المشروعية على "الدعم السريع"، فمن خلال قرارات الإغاثة، مالت المناقشات في الأمم المتحدة والأطر الدولية الأخرى نحو توطيد وضعه (الدعم السريع) سلطة واقعية في بعض الولايات، إذ تعمل المشاركة في الاجتماعات الدولية على تطبيع وجوده طرفاً، يتعزّز دوره بتكرار الاستئذان لمرور قوافل الإغاثة عبر الأراضي المُسيطر عليها.
(3)
ومع تضاؤل فرصة التدويل عبر مجلس الأمن، كان التوجّه الأميركي نحو عقد اجتماعات متعدّدة الأطراف، يُمثل فيها السودان بطرفي الجيش والدعم السريع، بجانب مُلحق من الأحزاب والتنظيمات المهنية والأهلية. لذلك، كانت الدعوة إلى عقد اجتماع جنيف (14 – 23 أغسطس/ آب 2024)، محادثات بشأن السودان تحت منصّة "متحالفون من أجل إنقاذ الأرواح وتحقيق السلام في السودان" (ALPS) التي أُنشئت حديثاً، وتضم السعودية والإمارات ومصر والاتحاد الأفريقي والولايات المتحدة وسويسرا والأمم المتحدة، وهي إطار جدة مُضافاً إليه الإمارات.
لم يكن انطلاق اجتماعات جنيف مقبولاً من حكومة السودان، فقد اعتبر مجلس السيادة إطار جدّة كافياً لوقف الحرب، وأنّ محاولات بدء مسارات جديدة غير مفيدة لوقف الحرب. وعلى ذلك، استند رفض البرهان، 17 أغسطس/ آب 2024. فمن جهة أولى، ارتكز موقف الجيش على رفض مشاركة "الدعم السريع" باعتباره متمرّداً على المؤسّسة العسكرية، وأنّ إدراجه في التعامل الدولي تآمر على السودان، تشارك فيه أطراف دولية وإقليمية. وفي جهة ثانية، رفض السودان مشاركة الإمارات دورها في دعم التمرّد، بالمخالفة للثقة الأميركية فيها، وهي أزمةٌ شهدت تطوّراتٍ لاحقة في تقديم السودان شكوى لمحكمة العدل واحتجاج مندوبها لدى الأمم المتحدة. ومن جهة ثالثة، اعتبر مجلس السيادة المشاركة تحت وضعية انتشار الدعم السريع في المدن اعترافاً وقبولاً بتقاسم السلطة وتقسيم الدولة.
مع تضاؤل فرصة التدويل عبر مجلس الأمن، كان التوجّه الأميركي نحو عقد اجتماعات متعدّدة الأطراف، يُمثل فيها السودان بطرفي الجيش والدعم السريع
على هذه الأرضية، تعثّرت محاولة جنيف لترسيم تمثيل الدعم السريع أمام عاملين، تمثّل الأوّل في صعوبة الدفاع عن الانتهاكات ضدّ الإنسانية في المدن والقرى وتقديمه للمجتمع الدولي جهة مسؤولة. أما الثاني، فقد أدّى امتناع مجلس السيادة عن المشاركة لبقاء جدول الأعمال في نطاق المعالجات الإنسانية وقطع الطريق على مناقشة موضوع السلطة الشرعية.
(4)
وعلى مستوى الأدوار الإقليمية، ظهر تياران بشأن الوضع في السودان، فبينما اتبعت مصر سياسة احتواء التدخل والانحياز لمجلس السيادة والقيادة العامة للجيش، قامت أفكار إثيوبيا ودول في "إيغاد" على حشد قوى الهامش في مواجهة مركز الدولة والانحياز لمطالب الدعم السريع.
منذ اجتماع جدّة، انشغلت مصر بوقف الحرب ومعالجة انقسام العسكرية السودانية واستعادة المرحلة الانتقالية. في هذه المرحلة، انصبّ اهتمام السياسة المصرية على منع تدويل الوضع في السودان. وهنا، اتخذت مسارين؛ كان الأول في تثبيت مشروعية مجلس السيادة. وفي هذا السياق، كانت مصر بوابة خروج عبد الفتاح البرهان للمشاركة في أعمال الجمعية العامة، سبتمبر/ أيلول 2024، وغيرها من التحرّكات لتمثيل السودان. كما ساندت الحكومة في الاجتماعات الدولية حول تنفيذ إعلان جدة وتهيئة سُبل الاتصال بالعالم. تعزّز هذا التوجّه مع وضوح معاداة "الدعم السريع" مصر، ليتم تصنيفه، بيان وزارة الخارجية في 31 أكتوبر/تشرين أول 2024، "ميليشيا"، ليكون خارج سياقات الترتيبات المصرية في الحل السياسي.
أما الثاني، حيث تفعيل السياسة الخارجية مع الجوار الأفريقي، وفي سياق احتواء التدويل، عملت القاهرة على تحييد اجتماع جنيف بعقد مسار مناظر لمناقشة تنفيذ إعلان جدة، حضره ممثلون عن الحكومة بالإضافة إلى بعض الأحزاب السياسية، كما انعكس تحسّن العلاقات المصرية الأفريقية في تحييد موقف الإيغاد، فهناك احتمال تأثير لاتفاقيات الشراكة الاستراتيجية مع كينيا، فبراير/ شباط 2025، على تراجع مشروع حكومة المنفى بقيادة الدعم السريع في تزامن مع مضي وزارة الخارجية، أول مارس/ آذار 2025، في تعريفها تهديداً للأمن الإقليمي وسيادة السودان، وتمّ دعم الموقف بعقد اتفاقيات مع حكومة السودان نوعاً من تثبيت المشروعية.
رفض السودان مشاركة الإمارات لدورها في دعم التمرّد
على الجانب الآخر، تشترك كلّ الأنشطة الحزبية في بريطانيا وكينيا وإثيوبيا في البحث عن صيغة، يكون الدعم السريع فيها شخصية اعتبارية مخاطبة من القانون الدولي لتمثيل السودانيين أو وضعه في حالة تنازع على السلطة خطوةً أولى. ويُعدّ المدخل الإنساني باباً سهلاً لإعلان سلطة واقعية.
وللتعويض عن فشل مجلس الأمن، ظهرت اتجاهات لإثارة النزاع على الشرعية، فمنذ نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، دخلت "تقدّم" في مناقشات حول تشكيل حكومة موازية، انتهت مشاوراتها لعقد اجتماع تحالف "الميثاق التأسيسي" في كينيا بهدف تشكيل حكومة لتمثيل السودان أمام المنظمات الدولية. استند هذا المسار إلى عمليات تحويل متتالية لشبكات "الحرية والتغيير ـ المجلس المركزي" معارضةً أو حكومة منفى. كانت جولات عديدين من منتسبيها في أوروبا والولايات المتحدة نوعاً من تسهيل حشد السودانيين في الخارج، لتحويل الصراع نزاعاً على الشرعية.
وفي هذا السياق، حاولت إثيوبيا لعب دور الوسيط بين الأحزاب السياسية، على أساس حلّ الطرفين ضمن مظلّة منظّمة الإيغاد، وبلغت ذروة هذا التوجّه مع اعتبار تحالف "تقدم" إثيوبيا دولة محايدة وصالحة للوساطة بين السودانيين. وعلى الرغم من المحاولات الأفريقية، لم تصمد مقترحات منظمة الإيغاد في عدم الاعتداد بمشروعية الحكومة أمام انفتاح "إعلان جدة" على المكوّنات السودانية وضمانات حماية المدنيين.
على أية حال، يمكن القول إنّ السياقات المختلفة تُقدّم إطاراً لتفسير المساهمة في كبح التدخل الدولي، وكان العامل الحاسم متمثّلاً في دعم استمرار الاعتراف بالحكومة الشرعية واستحواذها على القوّة اللازمة لاستعادة المقرّات الحكومية، وذلك في مقابل الافتراق الدولي على تعويم "الدعم السريع" والخجل من الدفاع عن تصرّفاته، ما شكّل ميزة لحلفاء الحكومة الإقليميين في مقابل اتساع الخلاف في الأمم المتحدة، تمّ استثمارها في تطوير سياسة كبح التدويل.
