يمسك الفلسطيني أبو لؤي الشعراوي بمسدس حراري موصول بأنبوبة غاز صغيرة عبر خرطوم؛ للحامِ وترقيعِ خزانات المياه المتضررة من جراء القصف الإسرائيلي الذي طاول كل شيء في قطاع غزة، لمحاولة ترميم ما يمكن ترميمه في ظل انعدام البدائل، ومنع الاحتلال إدخال الخزانات الجديدة.
ويدفع الشح الشديد في خزانات المياه، التي يطلق عليها شعبياً اسم "البراميل"، والارتفاع المهول في أسعار الكميات الشحيحة المتوفرة منها، الأهالي إلى إصلاح المتضرر منها عبر تقنية اللّحام، والتي اعتُمدت على نطاق واسع للتغلب على الأزمة. وعلى الرغم من غلاء كلفة ترقيع ولحام الخزانات نظراً لاعتمادها على غاز الطهي الشحيح مرتفع الثمن لتوفير الحرارة القوية لجهاز اللحام المتواضع، إلا أنها باتت الوسيلة الوحيدة لتجديد الخزانات التالفة التي يحتاجها الفلسطينيون لتخزين المياه، خاصة مع انقطاعها لفترات طويلة.
ونتجت مهنة "لحام البراميل" بوصفها ردَّ فعل على الواقع القاسي الذي يمر به أهالي القطاع، وبينما كانت تبدو غريبة في السابق، إلا أنها أصبحت جزءاً من الحياة اليومية لآلاف العائلات، ليس لتوفير الدخل فحسب، بل إحدى الحلول المبتكرة التي أوجدتها الحرب والظروف والتداعيات المعقدة في غزة.
يقول أبو لؤي الشعراوي لـ"العربي الجديد"، إنه كان يعمل قبل الحرب في شركة خاصة تقوم بتصنيع البراميل، وإن فقدان مصدر دخله عقب تدمير الشركات والقطاعات الاقتصادية دفعه إلى العمل في ترقيع الخزانات البلاستيكية رفقة ابنه لتوفير قوت أسرته.
ويبين الشعراوي أن "لحام البراميل ليس مهنة جديدة، إذ كانت قائمة قبل الحرب، لكن على نطاق ضيّق لترميم بعض الخدوش والثقوب الصغيرة، إلا أنها تحولت خلال الحرب إلى مهنة أساسية يتزايد الطلب عليها بفعل الأضرار الواسعة في البراميل، وندرة المعروض بسبب إغلاق المعابر".
ويتراوح سعر ترميم الخزان الواحد من 300 إلى 400 شيكل حسب حالته، بينما كان يباع الخزان الجديد، سعة ألفي لتر، بنحو 400 شيكل قبل الحرب، ويرجع الشعراوي سبب الارتفاع إلى الزيادة الكبيرة في تكلفة الترميم، إذ وصل سعر كيلو الغاز إلى مئة شيكل بعد أن كان يباع بستة شواكل، إلى جانب ارتفاع تكاليف النقل (الدولار الأميركي يساوي 3.60 شواكل).
يقوم الحرفي باستخدام معدات لحام خاصة لإغلاق الثقوب والتصدعات الموجودة في الخزانات عبر قطع بلاستيكية يجري توفيرها من براميل أخرى قُطِّعت لاستحالة ترميمها، فيما لا تعطي النتيجة النهائية الجودة الفائقة، إذ قد لا يمنع الترقيع تسرب المياه كلياً، غير أنه يخفف من حدته كثيراً. ورغم بساطة تلك المهنة، إلا أن أصحابها يوفرون دخلاً جيداً لأسرهم في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة، وفي المقابل يعجز كثير من الفلسطينيين عن دفع كلفة الترميم، ما يبقيهم أسرى النقل اليومي للمياه عبر الغالونات اليدوية.
ويقول حرفي لحام البراميل سعيد الصاوي إنه توجه إلى هذا العمل بفعل الظروف الصعبة في غزة، وبعد أن منعته الحرب من مواصلة عمله في مهنة البناء، ويبين لـ"العربي الجديد"، صعوبة العمل في ظل نقص المعدات والإمكانيات، والاعتماد على "كاوٍ حراريّ يدويّ بسيط" يستغرق الكثير من الوقت والجهد والتكلفة، لكن حاجته لتوفير قوت أطفاله، وحاجة الناس إلى الترقيع دفعته إلى مواصلة العمل، ويرى الصاوي أن مهنة لحام وترقيع البراميل البلاستيكية ستستمر طالما استمر منع دخول البراميل، وارتفاع أسعار الكميات المحدودة الموجودة منها، خاصّة في ظل تهافت المواطنين على اقتناء الخزانات بعد أن تسببت الحرب في تخريب الخزانات الخاصة بهم.
قرر الفلسطيني محمود شنيورة لحام خزان المياه في ظل الحاجة الماسة إليه، إذ بات تخزين المياه لحظة وصولها مهماً لتوفيرها لأطول فترة ممكنة في ظل انقطاعها باستمرار، ويوضح لـ"العربي الجديد"، أنه اضطر إلى دفع مبلغ يوازي ثمن الخزان الجديد لترميم خزانه القديم بفعل ارتفاع أسعار البراميل الجديدة، في حين يعاني من أوضاع اقتصادية سيئة بفعل الحرب التي أفقدته مصدر دخله، ويضيف شنيورة أنه "مع تزايد الغلاء وصعوبة الحصول على البراميل، قررتُ إيجاد حل مؤقت عبر ترميم بعض الأجزاء المتضررة، فلحام الخزان القديم بالنسبة إليّ خيار عملي وسهل، بينما شراء خزان جديد مكلف للغاية".
بدوره، لم يتمكن الفلسطيني سعدي يوسف من ترميم الجزء العلوي من الخزان، بسبب الشروخ العميقة والحروق التي خلفها القصف، الأمر الذي دفعه إلى قص الجزء التالف، واستبداله بشادر بلاستيكي لتغطية الجزء المتبقي من الأتربة والأوساخ مع ترقيع الثقوب، ويوضح يوسف لـ"العربي الجديد" أنّه فوجئ بالأسعار الباهظة للبراميل المستخدمة رغم كفاءتها المحدودة، وذلك بفعل زيادة الطلب وقلة المعروض، ما دفعه إلى ترميم الخزان القديم، ويبين أن "ترميم البراميل البلاستيكية المخصصة لمياه الاستخدام اليومي أو مياه الشرب يتزامن مع الغلاء في مختلف السلع والمواد الأساسية، وهو أمر بات يزيد من حجم الأعباء الملقاة على عاتق المواطنين المرهقين".
وشجع الحصار الإسرائيلي المفروض على القطاع، ومنعه إدخال العديد من المواد الخام اللازمة للتصنيع على ازدهار هذه المهنة المستحدثة لتلبية الاحتياج الكبير للخزانات. وعلى الرغم من بساطة الفكرة، إلا أنها مكلفة للغاية، إذ يضطر الفلسطيني إلى دفع مبلغ يقترب من السعر الفعلي للخزان الجديد، ويلجأ كثيرون إليها بفعل تضاعف أسعار الخزانات التي تباع في السوق السوداء، والتي بلغت خمسة أو ستة أضعاف.
