لماذا يتراجع الوطنيون السوريون؟

منذ ٢ أيام ٢٩

تفتقد سورية اليوم، وهي في واحدة من أشدّ اللحظات حساسية في تاريخها، صوتاً واضحاً وحازماً من الفئة الأكثر أهمية في المجتمع السياسي السوري، نقصد الفئة الوطنية، صاحبة الوعي الذي يمكن أن يسند وحدة سورية وتماسكها. لنلاحظ هذا التحوّل؛ شاع في بداية ثورة 2011 في سورية أن هتافاً تردّد في المظاهرات ينادي بقتل العلويين وتهجير المسيحيين. رفضت حينها غالبية المعارضين لنظام الأسد (ونحن منهم) هذه الإشاعة بحزم، وكذّبتها، واعتبرتها إحدى محاولات المدافعين عن نظام الأسد لتشويه الثورة وصدّ الناس عنها. وقيل إنه، حتى لو ردّد بعضهم مثل هذا الهُتاف فإنهم لا يمثّلون الثورة، ولا وزن لهم فيها. ثم قبل أيّام فقط من الذكرى الرابعة عشرة للثورة، تحوّلت الإشاعة مجازر فعلية بحقّ العلويين، فقط لأنهم علويون، بحسب المنطوق المباشر والصريح للجناة، ولم يُبدِ كثيرون ممّن استنكروا بحزم وثبات الإشاعة القديمة، موقفاً حازماً وثابتاً في رفض المجازر المروّعة، التي ربما كان سيميل كثيرون منهم، كما توحي سجالاتهم ومحاكماتهم العقلية المُعلَنة، وضعف تعاطفهم مع المنكوبين، إلى التكذيب، لولا أن الجناة وثّقوا أفعالهم متفاخرين، ومن دون خشية من أيّ عواقب.

نحن لا نتكلّم هنا عن أفراد ذوي مصلحة ينضوون في هياكل السلطات الجديدة، ولا نتكلّم عن أفراد من بطانة هذه السلطات أو مستفيدين بصورة شخصية مباشرة منها، كما لا نتكلّم عن شريحة معادية لفكرة الشعب نفسها ترى الحياة السياسية من موقع تمييزي، وتصنّف الناس وحقوقهم في درجاتٍ بحسب البيئة المذهبية التي ولدوا فيها، نحن نتكلّم عن أشخاص وطنيين يدافعون عن الديمقراطية والمواطنة ودولة القانون، وبينهم من سبق له أن دفع ثمناً باهظاً لوقوفه ضدّ سياسات القوة، وضدّ سياسات التمييز التي ثابر نظام الأسد على ممارستها في الحياة العامّة. هؤلاء هم رصيد وطني ثمين لسورية، والحقّ أن هؤلاء هم في المقام الأول من يفترض وقوفهم ضدّ المجازر، وهم من يفترض أن يتطلّع المنكوبون إليهم منتظرين الإنصاف والتضامن الفعلي، أو المناصرة اللفظية الصريحة على الأقلّ، ذلك أن أنصار دولة القانون معادون بالطبع للقتل الاعتباطي للناس، معادون حتى لقتل مجرمين خارج القانون، فهم مناصرون أساساً لحكم القانون بوصفه السبيل الأكثر أهميةً لنزع العنف من المجتمع.

صحيحٌ أن بين مارس/ آذار 2011 (الثورة) ومارس 2025 (المجزرة)، كثيرا من الدمار والدم، ومن المعاناة والمآسي التي تكبّدها السوريون بيد نظام الأسد، وبصورة خاصّة في المناطق التي خرجت من سيطرة النظام، ولكن الواضح أن هذه السنوات خرّبت أيضاً في وعي السوريين عموماً وفي نفوسهم، ومن ضمنهم الوطنيون الذين سبق أن استنكروا مجرّد هتاف يقول بقتل العلويين، ثمّ باتوا متساهلين مع جريمة إبادة، متّخذين من فظائع نظام الأسد مستنداً لتساهلهم، أي يجدون في الدوس على القيم والقانون مبرّراً لتكرار الفعل نفسه. يبقى ما هو أكثر أهميةً، أنه بدلاً من أن يتصلّب الوعي السوري ويشتدّ ضدّ الأسباب الحقيقية للدمار الذي شمل البلاد، الأسباب التي يدركها جيّداً هؤلاء الوطنيون المتفهّمون للمجازر، ترى هذا الوعي يتراجع أمام إعادة تشكّل الأسباب نفسها، ويتساهل مع ما كان يرفضه بقطعية من قبل، ثمّ يجتهد في تبرير تساهله، ويرى في هذا "الاجتهاد" تطوّراً في الوعي، وتحرّراً من النظريات الجامدة، وخروجاً على المساطر. هكذا بات يُزيَّن لهؤلاء أن "تفهّم" مجازر إبادة طائفية صريحة، هو تطوّر وانحياز للمستقبل، والحال أننا بذلك إنما نخسر المستقبل، بقدر ما نريد سورية موحّدة ومتماسكة.

خلال الشهور الثلاثة التي سبقت المجازر في الساحل السوري لم يخلُ يوم من انتهاكات تدرّجت بين الإهانات الطائفية والاستيلاء على أملاك، وصولاً إلى القتل الطائفي

لا يغيب عن بالنا ما أقدم عليه عناصر من النظام السابق ممّن لا يريدون الاستسلام لحقيقة أن السلطة خرجت من أيديهم، ويبحثون عن مخرج للمأزق الذي هم فيه، ونعتبر أن مهاجمة بقايا النظام دوريات الأمن العام بالكمائن، ومهاجمة المشافي، ونشر قنّاصين في الأسطح، ومحاولة السيطرة على مناطق، والاستقواء اليائس بقوىً خارجية... إنما هو استمرار لإجرامهم الممتدّ والمعهود ضدّ السوريين. ونعلم أن شباباً علويين انضموا إلى هؤلاء تحت مؤثّرات عديدة منها، ولعلّ أكثرها أهمية الانتهاكات التي راحت تمارسها بعض الفصائل بحقّ العلويين بعد سقوط نظام الأسد، والتي تهاون معها كثيرون من الوطنيين بوصفها "حالات فردية".

السؤال: لماذا رفض الوطنيون الهتاف الداعي لقتل العلويين في بداية الثورة، ثمّ تهاونوا اليوم مع القتل الإبادي الذي استهدفهم؟... الجواب الشائع هو بسبب جرائم النظام 14 سنة. لكن هذا يعني أن الوطنيين السوريين يعتبرون العلويين، بوصفهم جماعةً مذهبيةً، مسؤولين عن هذه الجرائم، وليس النظام الذي تمكّن من جعل الدولة ملكيةً خاصّةً للسلطة، وجعل السلطة ملكيةً خاصّةً للعائلة. والواقع أن نظام الأسد ما كان ليتمكّن من فعل ذلك لولا تساهل المجتمع السوري وتراجعه أمامه، الأمر الذي تبدو ملامح تكراره (اليوم أيضاً) أمام السلطات الجديدة. ثمّ، حتى لو اعتبرنا العلويين (جماعةً) مسؤولين عن جرائم الأسد، وهو اعتبار خاطئ، فإن الانتقام الذي جرى لا يمكن أن يسكت عنه من يريد فعلاً بناء دولة وبلاد مستقرّة لا تقوم على الغلبة ومراكمة الضحايا على الضحايا والأحقاد على الأحقاد.

هناك جواب آخر، أن السبب يعود إلى جرائم بقايا النظام بعد سقوطه، والتصوّر أن العلويين تعاونوا (أو سكتوا) عن مؤامرة فلول النظام. من يكرّر هذا القول يضيف عادةً: وإلا لماذا لم تجر هذه المذابح قبل كمائن الفلول؟... والحقّ أن المرء لم يكن في حاجة إلى متابعة لصيقة كي يعرف أنه خلال الشهور الثلاثة التي سبقت المجازر لم يخلُ يوم من انتهاكات تدرّجت بين الإهانات الطائفية والاستيلاء على أملاك، وصولاً إلى القتل الطائفي، وقد بلغ عدد القتلى العلويين في هذه الفترة حوالي 600 ضحية، بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، وهو ما شكّل في الواقع تمهيداً مناسباً لبقايا النظام.

مفهوم أنه في البلدان التي لا تتوافر فيها انقسامات طائفية كالتي في سورية، سوف يتخذ الرفض السياسي أبعاداً أخرى

في كلّ حال، لا نعتقد أن أحداً من المتساهلين مع المجازر يعتبر أن قتل العائلات العزلاء في بيوتها تصدّ لبقايا النظام. الجلّادون أنفسهم، وهم ينفّذون جرائمهم لم يكن في تصوّرهم إنهم يواجهون بقايا النظام، كان في أذهانهم ما كانوا يصرّحون به مراراً، وهو إنهم يقتلون العلويين "الخنازير". في الخلفية الذهنية لهؤلاء مزيج من احتقار ديني للعلويين، مبنيٌّ على تعبئة بالرفض الديني الثابت للمختلفين، وعلى فتاوى مغلقةٍ عابرةٍ للأزمنة، ولها استقلال لا بأس به عن السياسة، مضافاً إلى رفض سياسي غذّاه نظام الأسد، واتخذ بعداً طائفياً لاعتباراتٍ عديدة، أكثرها أهميةً أن النظام استند في ذراعه العسكري الأمني إلى العلويين بصورة أساسية، وقد ساهم وصف النظام السوري بأنه "نظام علوي"، وهذا الوصف من منشأ إسلامي أصلاً، في تعزيز الدافع الانتقامي ضدّ العلويين، حين تراكبت الفتوى الدينية على الفتوى السياسية. ومن المفهوم أنه في البلدان التي لا تتوافر فيها انقسامات طائفية كالتي في سورية، سوف يتخذ الرفض السياسي أبعاداً أخرى، قد تكون عشائرية أو إثنية أو أيّ خطوط انقسام أخرى غير سياسية، وتعمل على خنق الانقسامات السياسية وإحالة الصراع السياسي عنفاً أعمىً مدمّراً لا يُنتج سوى مزيد من العنف.

ضعف الحساسية الذي أبداه كثيرون من الوطنيين السوريين تجاه مجازر الساحل، وقبلها تجاه الإذلال والانتهاكات اليومية التي تعرّض لها العلويون في مناطق مختلفة بعد سقوط نظام الأسد، تكشف واحدةً من أسباب مراكمة الفشل، حين تنكفئ الفئة الأكثر أهمية في المجتمع عن الاعتصام بحبل القيم الوطنية العامّة، الذي هو ما يعطيها قيمتها.

قراءة المقال بالكامل