"ما الإسلام؟" لـ شهاب أحمد... ألم يدرك الباحث الغربي حقيقته بعد؟

منذ ١ أسبوع ٣١

"ما الإسلام؟" سؤال لا يزال يتكرّر في أكثر من خطاب تُنتجه الثقافة الفرنسية، والغرب عموماً، بين مؤلّفات أكاديمية وموادّ إعلام وأُخرى تبسيطية. وها هو يعود عنوانَ كتابٍ جامعي للمفكّر الباكستاني الأميركي شهاب أحمد (1966 - 2015) الذي صدرت ترجمته إلى الفرنسية مؤخراً، عن "دار فيناتر" الباريسية، بتوقيع المستعرب البلجيكي بول نينكريشيان. وبما أن الترجمات تأتي لتسد ثغرات في الثقافة التي تصل إليها، فلنا أن نتساءل ما الذي ينقص الفكر الفرنسي حتى ينقل هذا النّصّ وهو الذي يزخر بـ الدراسات حول الإسلام؟ وقد يتفرّع السؤال إلى ما أبعد، حين نرى الإصرار على نفس الصيغة المبسّطة من السؤال حول الإسلام: ألم يعرفوا ما هو حتى الآن؟ وماذا تضيف المحاولة التعريفية الجديدة؟

استهلّ أحمد محاولته بضرورة التمييز بين الإسلام مقدّساً دينياً وبين التعابير الثقافية التي تنشأ في كنفه، مثل ممارسات الفنّ والتقاليد الاجتماعية وحتى الشعائرية التي لا تمتّ بصلة إلى مرجعياته الفقهية. فقد تتعارض التعابير الثقافية مع مبادئ الدين العامة ضمن الجدل القائم بين ما قبل النَّص (pré-texte)، والنَّص ذاته، ومحيط النَّص (con-texte) أي ما صِيغَ حول القرآن والسنّة من تأويلات تتنافى مع منطوقهما من أجل ملامسة حقائق أعمق من تلك التي تتضمّنها المنظومة الشرعية.  

ولبيان ذلك، وظّف صاحب "ما قبل الأرثوذكسية" (2017) معرفته باللغات الآسيوية كالفارسية والأردية والماليزية إلى جانب نظائرها الأوروبية، وكذلك تضلّعه في التاريخ الاجتماعي للمنطقة الممتدّة من البلقان إلى بنغلادش من أجل البرهنة على نظريته، عبر أمثلة استقاها من هذا التكتُّل الثقافي الذي اعتبره محكوماً بمفارقات هيمنة الفقه والقراءة الحَرفية من جهة؛ والتطلُّعات الروحية والفلسفية والفنّية التي عبّر عنها فلاسفة الإسلام من جهة ثانية.

يستبطن منزعاً استشراقياً لفكّ الارتباط بين العروبة والإسلام

وقد بنى أحمد "محاولته" على إظهار التناقضات التي وسمت، في رأيه، مجتمعات الإسلام في هذه المنطقة الآسيوية. وأولاها استخدام نعت "إسلامي" لتوصيف الفلسفة باعتبارها بحثاً عن مبادئ تتجاوز سُلطة النَّص للوصول إلى الحقيقة المطلقة. فكيف يتسنّى نعت فلسفة ابن سينا بالإسلامية في حين أنها مستوحاة من المنطق الأرسطي والمثالية الأفلاطونية، وأنها نهضت بناء عقلياً من أجل إكمال ما جاءت به الشريعة، كما لو كانت هذه الأخيرة غير تامة، بل ولمعارضة بعض أحكامها؟

وتتّصل ثاني المفارقات بالولاية بما هي إدراك للحقيقة المطلقة عن طريق الحدس الذي يُعارض منطق النصوص الفقهية التي تضع الحقّ حصرياً في قواعد الشرع؛ إذ ظهر القول بوحدة الوجود لدى ابن العربي والإشراق مع السهروردي في محاولة للإمساك بحقائق ما قبل النَّص أي المبادئ العليا التي تربط المؤمن بالمقدّس خارج الأطر الشعائرية. ومن ذلك أيضاً ظهور مدرسة العشق الإلهي على يد ابن الفارض ومدارس التصوف وجلّها عبّر عن المحبّة بصور حرّمها الفقهاء واتّهموا القائلين بها بالزندقة. وتتّصل بقية المفارقات بالتنازع الحادّ بين تحريم التصوير وانتشار المنمنمات وبتعاطي الخمر في نفس هذه المجتمعات رغم النهي عنه.

من الأحرى أن تُسمّى هذه المفارقات توتّراً بين القيمة والممارسة، بين المثل الأعلى والواقع، وهي توترات نجد صداها في كل المجتمعات البشرية على امتداد التاريخ. فجميعها شهدت تجاذباً بين القيم العليا التي ترسمها السلطة وبين الممارسات اليومية التي تنحرف عنها. ولا يجب أن تكون هذه المفارقات مُشكّلة لجوهر الإسلام ولا عناصر فارقة في تحديد ماهيته كما لو كانت ذاتاً متعالية. 

كما غاب عن أحمد أن هذه المفارقات تنتمي إلى النُّخبة وتصوّراتها الفئوية المقتصرة على عدد ضيق من المفكّرين، في حين أن الواقع الثقافي يزخر خلال الفترة المدروسة بين عامَي 1350 و1850 بنشاط فكري مختلف، ولعل شخصيات مثل السيوطي والنووي من أفضل من عبّر عن هذه التوجّهات حيث خاضت هذه الوجوه نقاشات أقرب إلى التوجيه الأخلاقي للحياة اليومية. وحتى الطُّرق الصوفية التي يُفترض أن تنقل مثل هذه الأفكار فقد انشدّت إلى المديح النبوي كما في قصائد البوصيري وإلى التزكية الشرعية، ثم إلى الفقه من خلال المتون الكبرى مثل خليل والأخضري وابن عاشر.

من جانب آخر، لا نفهم حرص أحمد على تفتيت المقدّس في حين لم يقُل بقدسية هذه البناءات الدينية أحد ولا تشديده على الطابع الزمني-الثقافي للإسلام في حين أنه بديهي، إذ لم يقُل أحد بتعاليه كتجربة تاريخية ولا أحد اعتقد في قدسية الفقه أو علم الكلام وتهذيب الأخلاق. بل اتّفق الجميع على أنها مجرد "مقولات" حتى عنون الأشعري كتابه بـ"مقالات الإسلاميّين" جاعلاً منها آراء تصيب وتخطئ لأنها مجال اجتهاد وجدل ومناظرة. وأمّا أحكام الفقه فمظنونة، نتجت عن اجتهادات واختلافات المدارس في احتكاكها بالوقائع المتنوعة.

تركيزٌ على مفارقات نخبوية جاءت على حساب الواقع الثقافي

وأمّا مفهوما "الإسلامي" و"المسلم" اللذان فكّكهما الباحث ليميّز بين ما يُمكن إدماجه ضمنهما وما لا يُمكن، فمجرّد تسميات يقتضيها اقتصاد الاستخدام اليومي، كسائر المفاهيم الكبرى: "غرب"، "شرق" و"ديمقراطية" التي تستعمل بغرض الإشارة لا بغرض التحليل العلمي. وقد سبق لمحمد أركون أن دان هذا التهاون في استخدام هذه المصطلحات وعدم الانتباه إلى أنها تغطي مستويات متفاوتة، بعضها زمني تاريخي وبعضها الآخر متعالٍ.

كما يصدر هذا الباحث عن ضرورة فكّ الارتباط بين العروبة والإسلام للتدليل على أنّ التطوّرات التي شهدها هذا الدين في غير السياقات العربية، مثل الفارسية والتركية والأفريقية، أثرى بكثير ممّا عرفه المحيط العربي. ورغم أن الفكرة وجيهة في ظاهرها، فإنها تخفي عداءً مُضمراً للروح العربية ونيّة مبيّتة لنزع الأصالة عن الفكر واللسان العربيّين حتى لا يستأثرا بالتعبير عن هذا الدِّين؛ كأنّ الثقافة العربية، ذات الأصول البدوية، لم تكن جوهريّاً قادرة على التطوير الإيجابي للإسلام ولا على نقله من طَور السذاجة إلى مصاف الحضارة التي درس آثارها المستشرق النمساوي فون-غرينبوم. حضرت هذه الأطروحة في خطاب بعض المستشرقين الذين لطالما ازدروا الإسلام العربي وأقصوا منه كبار مفكّريه باعتبارهم أعاجم واستدلوا بالبخاري وسيبويه والفارابي والجرجاني وبغيرهم. 

ويحقّ أن نتساءل في الختام عن أسباب تأخُّر إصدار الترجمة الفرنسية: هل هو التحفّظ على الأعمال التي كتبها مستعربون غير أوروبّيين؟ أم هو التخوّف من الخلفيات المنهجية أو العرفانية التي ربما تكون قد حرّكت مثل هذه الكتابات؟ فقد وُلد شهاب أحمد لأبوين باكستانيَّين وتدرّج في مناصب البحث حتى صار مدرّساً في "جامعة هارفارد" بقسم الدراسات الفقهية. 

ثم هل يكفي تطبيق مناهج ومنظورات جديدة حتى نقرّ بإضافة في فهم الإسلام ومقارباته؟ ثم ألا تتحوّل العودة المتكرّرة لذات الموضوع إلى تضخُّم نصّي يمنع من الوصول إلى لُبّ الأشياء، حيث يقف القارئ الذي يتطلّع للمعرفة الصادقة أمام متاهة من المتشابهات تمسح نفس الأفكار ولا تتقدم به إلّا ببطء ثم لا يخلص إلى شيء مفيد بعد عناء البحث. إنه العود الأبدي إلى نفس الأسئلة من أجل الوصول إلى نفس الإجابات. 


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

قراءة المقال بالكامل