(1)
بعيداً من دونالد ترامب وأفاعيله، علينا أن ندرك أن ما يدور في الساحة الدولية وفي المستوى العالمي يعزّز حقيقة أنّ ثمّة حرباً "معولمة" (لا عالمية)، نعيش تجليّاتها وتتنفّس هواءها، وما بقي للعاقل إلا أنْ يتحسّب لتداعياتها. لا يحتاج المرء أن يعينه ناصحٌ لأنْ يرى كيف هي غضبات الطبيعة ممّا نرى من مشاهد تحوّلات المناخ، واجتياح النيران للخضرة، واهتزاز الأرض من تحت أقدامنا بالزلازل، وكثير كثير من مظاهـر ذلك الغضب. لكأنّ ذلك لا يكفي، فإذا بغضبات البشر من أنفسهم على أنفسهم تزيد الأمر ضِغثاً على إبَّالة. تجتاح الصراعات الأصقاع وتضرم الحروب نيرانها في الأنحاء شرقيها وغربيها، ولا تملك آليات حفظ الأمن والسلم، التي أقرّها ميثاق الأمم المتحدة وما تفرّع منها من مؤسّسات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو قانونية، فعّاليةً تُعين. تبدّى عجز أكثر تلك المنظّمات، وتضعضعت فعّاليتها من نقص تمويلها بإرادة القابضين على من بيدهم المنح والمنع، ومن المتنمّرين من أقوياء العالم، مثل رئيس الولايات المتحدة، الذي يسعى بوفاض خال من فكرٍ ومن رؤى لحلّ أزمات العالم وحروبه، في أقل من مائة يوم (كما زعم)، وهو يجالس أهل الإعلام في مكتبه.
(2)
يقف العالم في دهشةٍ أمام سياسيٍّ مشكوكٍ في قدراته السياسية، كسب انتخابات الرئاسة الأميركية وصار في رأس أقـوى دولة في العالم الماثل. يمنـح الدستور الأميركي صلاحياتٍ واسعة للرئيس، تشمل قيادة الحكومة التنفيذية وقيادة القوات الأميركية وتشاركه السلطات التشريعية. غير أن انتخابه من جديد وبعد خسارته في انتخابات رئاسية سابقة، يأتي وفي جعبته نيات الانتقام من الإدارة السابقة، ولم يكفّ عن إطلاق صفات الاستهزاء بالرئيس السابق لسياساته "الغبية الفاشلة"، مدّعياً أنه سيستهل إدارة البلاد بإسم الحزب الجمهوري، بغرض استعادة عظمة الولايات المتحدة، بعد أن أضرّ بها "الديمقراطيون".
يقف العالم في دهشةٍ أمام سياسيٍّ مشكوكٍ في قدراته السياسية، كسب انتخابات الرئاسة الأميركية وصار في رأس أقـوى دولة في العالم الماثل
خلال أسـابيعه الأولى، استعدى الرّجل جيران بلاده بصورةٍ استفزازيةٍ غير مسبوقة. على كندا أن تكون الولاية الحادية والخمسين للولايات المتحدة، وعلى المكسيك أن تستعدّ لبناء جدار بينها وبين بلاده، ولن يحقّ لها أن تعطي اسمها للخليج المطلّ على السواحل الأميركية. وعلى دولة بنما ألا تستمتع بالسيطرة على القناة الاصطناعية الفاصلة بين المحيطين الأطلسي والهادي، وأنّ عليها أن تعيدها إلى الولايات المتحدة. أمّا غرينلاند، فلها أيضاً أن تكون ولايةً ضمن الولايات الأميركية.
(3)
ثمّ هنالك الحروب الثلاث المشتعلة منذ أكثر من عامين. الأولى بين روسيا وأوكرانيا (فبراير/ شباط 2023)، والثانية حرب السودان الكارثية (إبريل/ نيسان 2023)، والثالثة حرب إسرائيل لإبادة الفلسطيني في غزّة (أكتوبر/ تشرين الأول 2023). إنّ الرئيس الأميركي قد ألزم نفسه بما أوتي (حسب ما جعلنا نظن) من قدراتٍ "سحريةٍ" خارقة باحتواء هذه الحروب، بأعجل ما يمكن. وفيما سارع الرئيس ترامب إلى طرح ما يشبه الوساطة لوقف الحـرب بين روسيا وأوكرانيا، فقد بادر باستدعاء رئيس أوكرانيا إلى واشنطن، ثمّ تعمّد إذلاله في مكتبه البيضاوي أمام عدسات الإعـلام العالمي. كان واضحاً أنّ المبادرة التي طرحها على الرئيس الأوكراني مجرّد مناورة تستبطن أمرين: أولهما التودّد لروسيا، وثانيهما قضم نصيبٍ من الموارد الطبيعية من أوكرانيا. أما دول الاتحاد الأوروبي فلها أن تلعب الوسيط المستتر لإقناع الرئيس الأوكراني بالتعاون مع الرئيس الأميركي.
قد تنتظر حرب السودان وقتاً تسهل بعده إعادة رسم خريطة جديدة من ثلاث أو أربع دويلات تفرزها دولة كانت من أكبر البلدان الأفريقية
أمّا عن حرب غزّة، فقد اقترح الرئيس ترامب "الساحر" على إسرائيل، التي أبادتْ الفلسطينيين في غزّة، أن تكون غـزّة كلّها وساحلها منتجعاً إسرائيلياً أميركياً مشتركاً بين البلدَين. وهكذا فإن كان "الديمقراطيون"، خلال إدارة بايدن السابقة، أكثر موالاة لليهود، فإن "الجمهوريين" صهاينة أكثر من نتنياهو. أمّا حرب السودان فلها أن تنتظر بعض الوقت، إذ التنافس بين طرفيها كفيل بدمار البلاد في حرب إبادة جماعية ذاتية، يسهل بعدها إعادة رسم خريطة جديدة من ثلاث أو أربع دويلات تفرزها دولة كانت من أكبر البلدان الأفريقية. ... وهكذا تنجلي للناظر بعمق، كيف تتقاطع المصالح وتتلاقى، والرابح معروف والخاسر يعرف مبلغ خسارته.
(4)
لم يؤجّل الرئيس "الساحر" أيّاً من مبادراته لاستعادة "العظَمة الأميركية"، فاتجه نحو الداخل الأميركي مستعيناً بمستشار أشدّ "سحراً" منه. جاء الرئيس بإيلون ماسك لرسم سياسات داخلية يتخلص عبـرها من جيوشٍ من عناصـر الخدمة العامّة في الوزارات والمؤسسات الحكومية الأميركية. لم تعفِ تلك السياسة الاستخبارات المركزية ولا وزارة التعليم ولا الجيش، فيما شـرع الدبلوماسيون في وزارة الخارجية الأميركية يبلون رؤوسهم أمام سيل المبعوثين الذين عُيّنوا من ساكن البيت الأبيض لتولّي عديدٍ من ملفات السياسة الخارجية، وجلّهم من صفوف الشعبويين والجمهوريين من بين مؤيّدي ترامب. لا ينظر أحد إلى خبرات الدبلوماسية العميقة لمعالجة أزمات وصراعات مستفحلة، بل التكليف لخبرات سياسية محضة.
جاء الرئيس بإيلون ماسك لرسم سياسات داخلية يتخلص عبـرها من جيوشٍ من عناصـر الخدمة العامّة في الوزارات والمؤسسات الحكومية الأميركية
(5)
وقبل إكماله مائة يوم لبدء استعادة العظمة الأميركية، يشعل الرئيس الأميركي حرباً اقتصادية وتجارية مع أطرافٍ عديدةٍ عالمية، لكأن تجليات الحرب العالمية الثالثة لن تكتمل إلا بعـد إشهار الأسـلحة التجارية بما يقـوّض مسلمات التجارة الدولية، ومن دون أدنى مبادرات للحوار والتشاور والتناصح. لا يرى الرئيس الأميركي أن هنالك كياناً دولياً من مهامه رعاية التجارة الدولية وتنظيمها، وإن لم يعلن ترامب أنه قد ينسحب من منظّمة التجارة الدولية، لكنّه قد يمارس هوايته في الانسحاب الفعلي من دون إعلان. ما أثاره الرجل من رفع الرسوم الجمركية، قد يحدث خراباً تجارياً في الساحة الدولية، مثلما قد يؤذي الاقتصاد والتجارة الداخلية في الولايات المتحدة.
(6)
الشاهد أنّ الرئيس الأميركي الآن يمارس نوعاً من السياسة التي تربك العالم بأكمله، وهو عالمٌ تضطرب أحواله السياسية، جرَّاء الصراعات والحروب بصورة غير مسبوقة، فيما تعاني كيانات ومؤسّسات المجتمع الدولي من عجز بائن. يبقى السؤال: من يقول يا هذا إنّ "البغلة في الإبريق"، أم ترى سيطول انتظار العالم لعقلائه وأيضاً عقلاء الولايات المتحدة، فيما الثور يمارس هوايته في مستودع الخزف؟
