يُقال منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، إن حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة، غيّرت العالم، أقله غيّرت مفاهيم القانون الدولي والإفلات من العقاب والعدالة العالمية، بعدما داستها إسرائيل، من دون أي رادع دولي. ويُقال أيضاً إن العدوان المتواصل على الفلسطينيين في قطاع غزة، كشف ازدواجية المعايير والقيم الغربية القائمة على الحرية والديمقراطية وغيرها من المفاهيم السياسية الاجتماعية والإنسانية.
كل ما سبق، سيأخذ أبعاداً لا متناهية ومساحات شاسعة من النقاش السياسي والأكاديمي لعقود مقبلة، لكن تغييرات أخرى رافقت هذه الإبادة، وباتت نتائجها واضحة وملموسة. نتحدّث هنا تحديداً عن عالم التكنولوجيا، الذي جنح نحو الصناعات الدفاعية وتطوير البرمجيات العسكرية، فوادي السيليكون الأميركي، الذي قد نتصوّر بسذاجة أن نخبته مشغولة بابتكار التطبيقات، أو تطوير خوارزميات جديدة لمساعدتنا في اختيار فيلم على "نتفليكس"، باتت تركز بوضوح على البرمجيات الحربية. ولعلّ خير دليل على ذلك، قمة التكنولوجيا الدفاعية التي عقدت في العاشر من ديسمبر/ كانون الاول الماضي، في فلسطين المحتلة.
في جامعة تل أبيب، اجتمع قادة عسكريون إسرائيليون، ومديرو شركات أسلحة، وممثلو شركات تكنولوجيا أميركية، من بينهم "غوغل"، و"بالانتير"، و"أمازون"، إضافة إلى مستثمرين من وادي السيليكون، لحضور أول "قمة للتكنولوجيا الدفاعية". عنوانها يوحي بالحداثة، أما مضمونها فيوحي بعصر جديد من التحالف بين الصناعة الحربية والتقنيات الذكية.
القمة التي استمرت يومَين، جاءت لترسّخ التحالف المتين بين وادي السيليكون الأميركي، عاصمة التكنولوجيا العالمية، وبين وادٍ آخر، هو وادي السيليكون Silicon Wadi الإسرائيلي.
ففي قلب المشهد التكنولوجي العالمي، لا تقع كل الأنظار على وادي السيليكون الأميركي في كاليفورنيا. هناك، على الضفة الشرقية للبحر المتوسط، تحديداً في تل أبيب وحيفا وبئر السبع، نما وادي السيليكون الإسرائيلي أو Silicon Wadi ليصبح مركزاً عالمياً لصناعات التكنولوجيا المتقدمة، مدعوماً بشبكة من الاستثمارات الأميركية، والعلاقات الأكاديمية، والتجارب العسكرية.
لكن خلف الصورة الوردية لـ"أمة الشركات الناشئة" (كما تحب إسرائيل الترويج لنفسها)، تتشكل صورة أكثر قتامة: تكنولوجيا متطورة تُسخَّر لمراقبة الفلسطينيين، وابتكارات تُحوَّل إلى أدوات قمع، ومنتجات تُختبر على أرض الواقع في غزة والضفة الغربية.
ما هو وداي السليكون الإسرائيلي؟
مصطلح وادي السيليكون الإسرائيلي يُطلق على الحزام التكنولوجي الذي يضم مراكز الأبحاث والشركات الناشئة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، خصوصاً في تل أبيب، وحيفا، وبئر السبع، وفقاً لتقرير صادر عن Bay Area Council Economic Institute بعنوان "من وادي السيليكون إلى Silicon Wadi"، فإن إسرائيل تُعدّ من بين أعلى الدول عالمياً في نسبة الاستثمار في البحث والتطوير (قرابة 5% من الناتج المحلي)، وتضم أكثر من 1900 شركة ناشئة، غالبيتها في تل أبيب وحدها.
ما يميّز هذا القطاع هو العلاقة العضوية بين الشركات التكنولوجية وجيش الاحتلال الإسرائيلي، كثير من روّاد الأعمال، والمبرمجين، ومهندسي الذكاء الاصطناعي تخرجوا من وحدات عسكرية نخبوية مثل وحدة 8200، المعروفة بأنها تفرّخ مؤسسي شركات التجسس السيبراني والمراقبة، مثل NSO Group وCellebrite وAnyVision.
التكنولوجيا في خدمة الاحتلال
بحسب تقرير لمنظمة SMEX المعنية بالحقوق الرقمية (مقرها بيروت)، فإن دولة الاحتلال الإسرائيلي طورت منظومة من الشركات التي تقدّم خدمات تعتمد على الذكاء الاصطناعي، كالتعرف على الوجوه، والتتبع الجغرافي. هذه الشركات تُستخدم فعلياً لمراقبة الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة، وتُختبر تقنياتها على الأرض، في ما يشبه "مختبراً حياً للاحتلال".
من أبرز الأمثلة على ذلك:
- NSO Group، التي طوّرت برنامج "بيغاسوس" للتجسس على الهواتف، وبيعت تقنيتها لحكومات حول العالم، بعضها استخدمتها ضد صحافيين ونشطاء.
- AnyVision، التي طورت أنظمة مراقبة تستخدم تقنيات التعرف على الوجوه لتحديد الفلسطينيين عند الحواجز العسكرية.
- Elbit Systems، واحدة من أكبر شركات الدفاع في إسرائيل، التي تطور طائرات مسيّرة وأنظمة مراقبة تُستخدم في الحرب على غزة.
من تل أبيب إلى كاليفورنيا: علاقة عميقة بين الواديَين
منذ السبعينيات، بدأت شركات أميركية مثل "إنتل" وIBM بالاستثمار في إسرائيل، لكنها اليوم أصبحت جزءاً من نسيج Silicon Wadi الإسرائيلي. التقرير نفسه الصادر عن Bay Area Council Economic Institute يُظهر أن 96 شركة متعددة الجنسيات لها حضور بحثي في إسرائيل، 80 منها مقرها في منطقة سان فرانسيسكو، ومن بين أكبر المستثمرين هناك شركات مثل "غوغل"، و"مايكروسوفت"، و"فيسبوك"، و"أوراكل".
الارتباط بين الطرفين لم يعد اقتصادياً فحسب، بل هو أمني واستراتيجي، بحسب تقرير نشره The New Arab، فإن وادي السيليكون الإسرائيلي أصبح يلعب دوراً محورياً في تزويد الاحتلال الإسرائيلي بأحدث ما توصّلت إليه التكنولوجيا في مجالات الطائرات المسيّرة، والذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات الضخمة.
منذ السابع من أكتوبر، تكثّف استخدام الأنظمة التكنولوجية في حرب إسرائيل على غزة، سواء تلك التي طورت في وادي السيليكون الأميركي أو الإسرائيلي. وبحسب تقرير +972 Magazine، فإن الجيش الإسرائيلي استخدم نظام ذكاء اصطناعي يُدعى Lavender لتحديد "الأهداف البشرية"، وهو نظام يعتمد على تحليل البيانات لتحديد المشتبه بهم، وغالباً ما يُنتج نتائج غير دقيقة تؤدي إلى مقتل مدنيين.
أمثلة أخرى تشمل أنظمة مثل The Gospel وHabsora، التي تُستخدم لتحديد المواقع التي يُشتبه باحتوائها على مقاتلين، لكن الفارق أن هذه الأنظمة لا تتوقف عند المشتبه به، بل تُستخدم لتدمير المباني بمن فيها، ما يرفع أعداد القتلى كثيراً.
رأس المال المغامر الأميركي: شريك في القتل؟
بحسب التقرير الصادر عن "معهد الاقتصاد في سان فرانسيسكو" ووثائق أخرى، فإن رأس المال الأميركي استتثمر بكثافة في شركات التكنولوجيا الدفاعية الإسرائيلية، فبين عامي 2003 و2021، ضخّت شركات من وادي السيليكون أكثر من 22 مليار دولار في مشاريع داخل إسرائيل، غالبيتها في البحث والتطوير المتعلق بالبرمجيات والأمن السيبراني.
والمفارقة أن هذه الاستثمارات تتزامن مع تصاعد الاتهامات الدولية لإسرائيل بارتكاب جرائم حرب. ومع ذلك، تُعامل غزة موقعاً لاختبار "فعالية المنتجات" قبل تسويقها عالمياً.
"الجيش هو المدرسة الأولى"
لا يمكن فصل التطور التكنولوجي الإسرائيلي عن التجربة العسكرية، ووفقاً للتقارير، فإن الخدمة الإلزامية في جيش الاحتلال ــ خاصة في وحدات مثل 8200 ــ تُنتج جيلاً من المبرمجين الذين يدخلون مباشرة إلى قطاع التكنولوجيا، ويؤسسون شركاتهم الخاصة بعد التسريح، هذه التجربة الفريدة جعلت من الجيش الإسرائيلي، بحد ذاته، حاضنة تكنولوجية.
الخبراء يعتبرون هذه العلاقة من "أسرار التفوق" في بيئة الشركات الناشئة الإسرائيلية، إذ يتخرّج روّاد الأعمال من خبرات الحرب والمراقبة إلى تأسيس شركات تُسوّق بوصفها منتجة للذكاء الاصطناعي أو الأمن الرقمي، لكنها غالباً ما تُستخدم لانتهاك الخصوصية وحقوق الإنسان.
