مجازر مخيم جباليا| حكاية اعتقال وتعذيب ناجٍ وحيد من عائلته

منذ ١ شهر ٣٩

لا أعلم إلى أين سيأخذني قلمي في رصد وتوثيق مئات المجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي بحق أهالي مخيم جباليا شمالي غزة، وجرائم الإبادة على القطاع منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023. لكن كلّ ما أعرفه أنني خذلت نفسي ودماء شهداء الحيّ الذي أسكنه، حين انتظرت كل هذه المدة للبدء في الكتابة عنهم، ولأنه لا وقت للتبريرات، فإنّ هذه الشهادات بمثابة بوابة على مئات القصص عن شهداء في مخيم جباليا مُسحوا من السجلّ المدني.


من بين الأشخاص الذين تعلّمت منهم الصلابة في المواقف والجرأة في اتخاذ القرارات، صديقي وجاري إبراهيم سالم (36 عاماً)، أكبر إخوته الثمانية، لقد نشأ يتيم الأم وسط منزل بسيط لأسرة متعففة في مخيم جباليا. هذه الظروف جعلت من إبراهيم اللاجئ من بلدة دير سنيد المحتلة شخصاً جدياً وصلباً منذ الصغر، إذ تحمّل المسؤولية وشارك والده عاطف (58 عاماً) في إعالة إخوته.

لديه من الإخوة وسيم (33 عاماً) يعمل في مركز دراسات في العاصمة التركية، وخليل (29 عاماً) يشتغل في أعمال حرة، ومحمد (26 عاماً) بائع متجول، وليث (25 عاماً) كاتب وشاعر، وأحلام (27 عاماً) وحنين (32 عاماً)، وبراء (18 عاماً).

كان لإبراهيم صالون حلاقة، متزوج من ابنة عمته حنين (31 عاماً)، ولديه ثلاثة أبناء، فاطمة عشرة أعوام، ونانا ستة أعوام، ووسيم عامان. أما أخته أحلام فقد تزوجت من محمد أبو طبق (33 عاماً) وأنجبا طفلين، آدم خمسة أعوام، ورامي ثلاثة أعوام. فيما كان خليل عريساً حديثاً، إذ تزوج ابنة عمه قبل نحو شهرين من الإبادة على قطاع غزة.

عائلة صديقي إبراهيم ذاقت تقريباً كل صنوف المعاناة من الاحتلال، استشهد جزء منها ودمر منزلهم، وفقد صديقي مصدر دخله الخاص، وأصيب أطفاله، وأخيراً اعتقل لمدة تزيد عن ثمانية أشهر. ليلة الجمعة، 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، استشهد شقيقه خليل العريس، بعدما مسحت الطائرات الحربية الجزء الشمالي لبلوك "7"، حين كان يحتمي مع أصدقائه في أحد المنازل. استطاع إبراهيم إخراج جثمان شقيقه، ودفنه في مقبرة بيت لاهيا، غرب مخيم جباليا.

بعدها بشهر ونيف، وأيضاً في يوم الجمعة، لكن هذه المرة في التاسعة صباحاً، وتحديداً في تاريخ 8 ديسمبر/ كانون الأول 2023، قصف الجيش الإسرائيلي منزل إبراهيم سالم الذي كان يحتمي فيه قرابة 20 شخصاً. واستشهد على الفور، أحلام وأبناؤها، وشقيقها محمد، وأقارب زوجها، ومنهم سحر عابد (37 عاماً) وأطفالها الثلاثة، وأصيب آخرون بجروح متفاوتة، أخطرها كانت لأطفال إبراهيم الثلاثة، إذ تعرضت فاطمة لحروق من درجة ثالثة، فيما أصيبت نانا بشظايا في الرئة وكسر في الجمجمة، الأمر ذاته للصغير وسيم الذي دخل في غيبوبة بعدما تعرض لكسر في الجمجمة.

جرى نقل المصابين إلى مستشفى كمال عدوان الذي يبعد عن المنزل المدمر مسافة سير عشر دقائق، أول شيء فعله إبراهيم دفن شهداء العائلة في أكياس بلاستيك في حديقة المشفى، وضع أحلام وأطفالها في قبر، وشقيقه في قبر، ثم السيدة عابد وأطفالها في قبر، دفنهم بشكل مؤقت منتظراً انسحاب قوات الاحتلال التي كانت متمركزة في مقبرة بيت لاهيا في ذلك الوقت.

ثم أسرع للاطمئنان على المصابين من العائلة، وجرى وضع أطفاله الثلاثة في غرفة العناية المكثفة. يقول: "أذكر أنه تم علاجهم على ضوء الهاتف المحمول، لم يكن هناك وقود لتشغيل مولدات المشفى". تنقل الأب من سرير لآخر ليطمئن على إخوته وأطفاله الثلاثة، لكن مجدداً اقتحمت قوات الاحتلال البوابة الرئيسية لكمال عدوان، كان ذلك ليلة 11 ديسمبر 2023. يكمل إبراهيم: "دخل الجيش بجرافاته وتم حفر المكان الذي وضعت فيه جثث عائلتي وأخذوها، وحتى الآن لا نعرف مصيرها وماذا فعلوا بها".

بعد سحب الجثث، جرى اعتقال إبراهيم بصحبة عشرات المرضى والمصابين ومرافقيهم الذين كانوا في المشفى. يستذكر هنا أول أيام اعتقاله: "لمدة يومين كاملين جرى تجريدي من ملابسي، وكانت الأجواء باردة جداً، كانوا يسألونني سؤالاً واحداً، هل شاركت في السابع من أكتوبر؟".

طيلة مدة الاعتقال، مورس على إبراهيم أشد أنواع التعذيب الجسدي والنفسي، حتى إن أحد المحققين جاء له بصور جثامين إخوته، ليساومه مقابل إعادتهم بأن يدلي لهم بمعلومات عن المشاركين بالسابع من أكتوبر.

في الليلة التي اعتقل فيها إبراهيم استشهد شقيقه ليث بصاروخ من طائرة مسيرة خلال محاولته إنقاذ جيران له من عائلة أبو الفول، وقد علم إبراهيم باستشهاده بعد أن أفرج عنه، أي بعد ثماني شهور.

يعيش إبراهيم وحيداً في خيمة وسط مدينة دير البلح، لكن زوجته وأطفاله الثلاثة الذين تحسنت حالتهم الصحية يعيشون في خيمة أخرى لكن في ملعب اليرموك وسط مدينة غزة بعد ما تم محاصرتهم لمدة 70 يوماً، في مخيم جباليا لا طعام ولا ماء لا دواء. وتنتظر العائلة سريان اتفاقية وقف إطلاق النار على أمل أن يتم لم شملها مرة أخرى.

قراءة المقال بالكامل