لا أعلم إلى أين سيأخذني قلمي في رصد وتوثيق مئات المجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي بحق أهالي مخيم جباليا شمالي غزة، وسط جرائم الإبادة على القطاع منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023. لكن كلّ ما أعرفه أنني خذلت نفسي ودماء شهداء الحيّ الذي أسكنه، حين انتظرت كل هذه المدة للبدء بالكتابة عنهم، ولأنه لا وقت للتبريرات، فإنّ هذه الشهادات بمثابة بوابة على مئات القصص عن شهداء في مخيم جباليا مُسحوا من السجل المدني، وناجين عاشوا وتحملوا كل أنواع القهر.
منذ اليوم الأول، الذي عدنا فيه إلى منزل جدنا في بلوك "7" في مخيم جباليا، وتحديداً في صيف 1998، تعرفت على صديقي ماجد زقول. كانت ملامحنا متشابهة، حتى إننا كنا نتقاسم الكثير من الصفات والميول، لعبنا رياضة "الكونغ فو" في نادي خدمات جباليا تحت إشراف الشهيد بطل قطاع غزة مدحت اليازجي، بالإضافة إلى زملاء في مقعد الدراسة وفي ملاعب كرة القدم.
لكن ماجد كان متفوقاً دراسياً واجتماعياً، إذ يجيد الحوارات، ولديه علاقات كثيرة من الأشخاص الأكبر سناً، كنت أنظر إليه على أنه رجل صغير. ومن مواهبه بجانب أنه محترف في لعبة "البلياردو"، نظم الشعر، صحيح أنه لم يكتب ديواناً، لكنني أذكر أن أول قصيدة كتبها، حين كان عمرنا 13 عاماً، بعنوان "تشرين"، وأراد في ذلك الوقت تلحينها لتصبح أغنية، لكن رغبته لم تتحقق.
عرفني ماجد على صديقه سامر سالم، وهو يسكن في الحي الملاصق لنا، كان أكبر منا بـ 3 أعوام. ماجد وسامر، كانا مهتمين جداً بتتبع موضة الملابس، ويتميزان بجمال الملابس التي يرتديانها. مرت الأيام، وأصبح لكل شخص منا حياته الخاصة، ماجد (33 عاماً) أنهى دراسة التربية الإنكليزية من جامعة الأزهر، وتزوج من حنين غنيم (32 عاماً)، وأنجب طفلاً أسماه أزل (8 أعوام)، فيما تزوج سامر (36 عاماً) بابنة عمه منار (32 عاماً)، وأنجب 3 أطفال، تالا (9 سنوات)، ومحمد (6 سنوات)، ونورة (3 سنوات)، آخر مرة رأيته فيها كانت قبل 15 عاماً.
عام 2021، أصيب ماجد بسرطان في البنكرياس، واضطر إلى استكمال علاجه في مشافي مدن الضفة المحتلة، وخلال خضوعه للعلاج المكثف تحسنت حالته الصحية، وعاد إلى سوق العمل، ووجد مهنة في ورشة نجارة. مع الأسبوع الأول من حرب الإبادة على قطاع غزة، اعتقل الجيش الإسرائيلي ماجد خلال عودته من العمل، فيما احتمى سامر وزوجته وأطفاله في منزل قريبهم الجار حسن سالم المكون من ثلاثة طوابق في "بلوك 7"، وكان فيه قرابة 30 شخصاً.
ليلة 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وصلتني أخبار صادمة جداً، الأول يتعلق باستشهاد ماجد داخل السجون الإسرائيلية نتيجة التعذيب الشديد، وقد وصلني مقطع فيديو يوثق انقضاض الجنود عليه وهم يدوسون رأسه وجسده المريض بأقدامهم. ومن المصادفة، أن لدي ابن عم يدعى عامر (40 عاماً)، كان قد اعتقل أيضاً، والتقى ماجد في السجن، أخبرني أنه قبل أن يفارق الحياة، كان يعاني معاناة شديدة وكانت حرارته مرتفعة، ولم توفر له إدارة السجن أي وسيلة علاج أو مُسكن ألم، قال: "صديقك ابن زقول، مات ببطء، طوال ثلاثة أسابيع كانت درجة حرارته فوق الـ40".
بعدها بساعة من الصدمة الأولى، مسحت الطائرات الحربية الإسرائيلية، الجزء الشمالي من حارتي، من بينها منزل الجيران من عائلة سالم، وقد استشهد جميع من كان فيه، وبلغ عدد الشهداء في منزل واحد قرابة سبعة وعشرين شخصاً، تسع نساء، واثني عشر طفلاً، وثمانية شبان أو فتية.
في ظروف وأماكن مختلفة، فقدت صديقين عزيزين، والقاتل واحد ومعروف، لم يبق أحد من نسل صديقي سامر.. يقول الجار موسى سالم (37 عاماً) أحد الناجين من مجزرة عائلة سالم :" بعد 3 أسابيع، وصلنا إلى جثث عائلة سامر، لقد وضعناه وأطفاله وزوجته وأمه وأباه وشقيقته في قبر واحد".
أما عن ماجد، فإن المعلومة الوحيدة أنه قتل في السجن، لكن الجيش أخفى جثته وقد أغلق ملفه، والمعلومة الثانية أن حنين زوجته وطفله أزل كان يقيمان في خيمة يواجهان الجوع والبرد والفقدان.
لا أجيد الرثاء، حتى إنني لا أستطيع التعبير عن الحزن، لكن في حكاية فقدان صديقيّ ماجد وسامر تحضرني عبارة للروائي جبران خليل جبران، وهي :" ما زلت أؤمن أن الإنسان لا يموت دفعة واحدة، وإنما يموت بطريقة الأجزاء، كلما رحل صديق مات جزء، وكلما غادرنا حبيب مات جزء، وكلما قُتل حلم من أحلامنا مات جزء، فيأتي الموت الأكبر ليجد كل الأجزاء ميتة، فيحملها ويرحل".
