لازمتِ الترجمةُ الإنسانَ منذ ظهوره على سطح الأرض، ومحاولته الاتصال مع أبناء جنسه لسانياً، بوَساطة اللغة التي اختلقها مجتمعُه وثقافته، موظِّفاً ما ابتكره من أصوات وكلمات وإشارات وعلامات وصُور وأنغام وغيرها، مثل ما سعى إلى التواصل مع المجتمعات الأُخرى، التي مثَّلت بالنسبة إليه الآخَر، بلغاته وثقافاته وأخلاقه وفلسفاته، من أجل التفاهم والتعايش وتبادل الخبرات.
لكن هذا لا ينفي ما تؤكّده الوقائع من أن الترجمة وُظِّفت لأغراض تجارية في بدايتها، فَوسيلة للاطلاع على الكتاب المُقدَّس في ترجمته إلى اللاتينية على يد سان جيروم في القرن الرابع للميلاد، ثم واسطة لطلب العلم والمعرفة في العصر الوسيط، خصوصاً عند العرب، قبل أن تنقلب في العصر الحديث على يد الغرب إلى مطيّة تَخدم توسُّعه واحتلاله غيرَه من شعوب الأرض، بأنْ صيَّرها عِلماً ودراسةً في معاهد ومدارس، لتُساعد المُستعمِر الراغب في معرفة دقيقة وعميقة بالتابع، ليُحكِم سيطرته عليه، ثم أدخَلها هو نفسُه إلى رحاب الجامعة، وصيَّرها دراسةً أكاديمية، وفرَّعها إلى تخصصات عديدة كالترجمة المتخصصة (القانون، والطب، والرياضة... إلخ) والترجمة الأدبية، وحوَّلها إلى صيغ كثيرة، مِنها الترجمة التحريرية، والترجمة الفورية والتتابعية والمرئية، والترجمة التي تُعنى بذوي الاحتياجات الخاصة، والترجمة المُسعَفة بالحاسوب وغيرها، مما تُفاجئنا به التطوّرات المتسارعة في مجال التكنولوجيا الرقمية.
ولا يخفى أنّ الغاية التي تراهن الترجمة على بلوغها هي بناء فضاء مُشتَرَك تُلغى فيه الحدود بين المجتمعات، ويَسودُه التفاعل الإيجابي، لأنها تُعنى بأن تُدني القصيَّ، وأن تُصيِّر الغريبَ أليفاً وقريباً، ليس في المكان فحسب، بل في الزمان أيضاً، وبذلك تحقّق نوعاً من العَود الأبدي، الذي يجد في الفكر والفنّ والأدب إمكاناً طبيعيّاً لتحقُّقه، وهو ما لا يُمكن أن يَحدُث في الحقل التكنولوجي، الذي يَشهد تطوُّراً تصاعُدياً، يُلغي فيه الحاضرُ الماضي.
تواصلٌ خارجي وآخر داخلي يضمنان حفظ التراث والخبرات
توجد الترجمة لرغبة البشر المتماثلين لسانياً فيما بينهم في الاتصال من جهة، كحال الشعوب العربية والإسبانية، ولتوق الشعوب المختلفَة لسانيّاً وثقافيّاً فيما بينها إلى التواصل من جهة ثانية؛ والمعروف أنَّ الفهم السائد عن الترجمة يتمثَّلها دوماً حركةً من لغة إلى أُخرى فقط، أي بين نظامَين لغويّين متمايِزين، وهي التي يُسمّيها ياكوبسون بالترجمة بين-لغوية، لكنّ هذا لا ينفي وجود ترجمة أُخرى نُمارسها داخل اللغة نفسها، وهي التي أطلق عليها ج.ستاينر الترجمة الداخلية، وسمّاها ياكوبسون الترجمة داخل-لغوية.
والمتأمِّل في شكلَي الترجمة يجد أنهما نشاط مهمّ للغاية في حياة البشر، لأنه يتيح للناس الحفاظَ على اتصال داخلي وتواصل خارجي فيما بينهم، ويَجعلُهم يحرصون من خلاله على الاستمرار تلقائياً في حفظ تراثهم، ونَقْل خبراتهم وتطلُّعاتهم، في اختراق واضح لحواجز الزمن، وهو ما انتبه إليه ج.ستاينر بِقوله "لا مبالغة في قولنا إن امتلاكَنا حضارةً مَردُّه إلى تعلُّمنا أن نترجم ما وراء الزمن".
لا تكتفي الترجمة بإخراج أفرادٍ بعينهم إلى الوجود، فيصيرون بفضلها شهيرين، خصوصاً في مجال الكتابة الإبداعية الأدبية، بل إنها تُحافظ على اللغات الصغرى أيضاً، أَقصِد لغات الأقلّيات بما تَحمِله من ثقافة عريقة لها قيمتها، لكنها تكون مُبعَدة إلى الهامش، وتأتي الترجمةُ لتُبرزها، ولتَضمن لها الحقَّ في الاستمرار في الوجود، من خلال نقلها من موقعها في الهامش إلى المَركز، لتُسلَّط الأضواء عليها، وليُثمَّن ما تحويه من فنون ومعارف وعلوم.
واللافت أنّ التكنولوجيا الرقمية تُساعد بفعالية مدهشة في التواصل بين كلّ ثقافات العالَم المركزي منها والهامشي، بفضل تطبيقات تحملها الهواتف المحمولة، ومواقع التواصل في الشابكة، مثلاً، فيترسَّخ التقارب بين المجتمعات.
هكذا تعمل الترجمة، المعتمدة على التكنولوجيا، على الدفع بالثقافات المركزية إلى الهوامش لتحتكّ بمجتمعاتها، لكي تسترفد منها ما يضخّ دماء الحياة فيها، لِنَكتشف أن العالَم بدُوَله وثقافته وتكنولوجيته قد انقلب بحقّ إلى مجتمع ترجمة.
* أكاديمي ومترجم من المغرب
