وسط الركام والدمار الذي خلّفته آلة الحرب الإسرائيلية في بلدة بيت لاهيا الواقعة في شمال قطاع غزة، يبرز مستشفى كمال عدوان أشبه بجزيرة صمود في بحر من الخراب. هنا حيث كانت قوات الاحتلال الإسرائيلي تدكّ مباني المنشأة الطبية بقذائفها وتدمّر الحياة فيها وألسنة النار تلتهم المكان، نُصبت خيام بيضاء بسيطة إلى جانب أنقاض المستشفى الذي كان يوماً صرحاً طبياً عريقاً.
وتعمل الطواقم الطبية، التي ما زالت آثار الحرب المدمّرة ظاهرة على أفرادها، بعزيمة وإصرار من أجل تقديم العلاج للجرحى والمرضى، وسط نقص حاد في المعدّات الطبية ومستلزمات التنظيف والتعقيم. وعلى الرغم من الكارثة التي حلّت بالمكان، ما زالت الحياة تنبض في ما تبقى من المستشفى، معلنة عن صموده الذي يشهد على جرائم إسرائيل، وفقاً للعاملين فيه.
ماذا حدث في مستشفى كمال عدوان؟
في ديسمبر/كانون الأول 2023، دمّرت قوات الاحتلال الإسرائيلي أجزاء واسعة من مستشفى كمال عدوان الذي يُعَدّ أحد أبرز مستشفيات قطاع غزة قبل أن تعمد إلى تدمير المنظومة الصحية منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ثمّ عاد ليشنّ غارات جوية قضت على مولدات الطاقة الخاصة به في مايو/ أيار 2024. وفي ديسمبر 2024، اقتحمت القوات الإسرائيلية المستشفى وأجبرت الكوادر الطبية والمرضى ومرافقيهم على إخلائه فوراً. وشهد مستشفى كمال عدوان أعمال تخريب واسعة خلال الاقتحام، وأقدمت على حرق أقسام وتدمير أخرى، الأمر الذي تسبّب في توقّف الخدمات الطبية. كذلك اعتقلت حينها مدير المستشفى حسام أبو صفية، علماً أنّ صورته أثناء اعتقاله بين الركام لاقت تفاعلاً كبيراً على وسائل التواصل الاجتماعي، بين مشيدين بصمود الطبيب الإنسان وآخرين مستائين من الخذلان.
يُذكر أنّ مستشفى كمال عدوان هو المنشأة الطبية الرئيسية في محافظة شمال غزة (تمثّل مع محافظة غزة منطقة شمال قطاع غزة)، وهو يتألّف من أربعة مبانٍ، ويضمّ أقساماً للطوارئ وللاستقبال العام ولاستقبال الأطفال وللجراحة العامة، إلى جانب أقسام جراحة العظام والعناية المركّزة والأشعة، ومختبر وصيدلية.
عندما تحوّل مستشفى كمال عدوان إلى أنقاض
وبعد وقف إطلاق النار في قطاع غزة الذي دخل حيّز التنفيذ في 19 يناير الماضي، لا تكاد تمرّ لحظة من دون أن تكتظّ خيام مستشفى كمال عدوان المؤقتة بالحركة المستمرّة. ويتنقّل الأطباء بين المرضى والجرحى الوافدين من كلّ حدب وصوب، ويسعون بكلّ ما أوتوا من قوة لإنقاذ الأرواح رغم الدمار الذي لحق بالمباني. ولأنّ أجزاء كبيرة من المستشفى دُمّرت وحُرقت، يقدّم الطاقم الطبي الرعاية لمن يحتاجها في الخيام التي أقيمت على عجل، في ظلّ حملة إسرائيلية ممنهجة استهدفت المنظومة الصحية.
ومنذ السابع من أكتوبر 2023، دمّرت إسرائيل 34 مستشفى من أصل 38، من بينها حكومية وأهلية، في حين أنّ أربعة مستشفيات فقط تعمل بقدرة محدودة على الرغم من تضرّرها، وسط نقص حاد في الأدوية والمعدات الطبية، بحسب آخر إحصاءات للمكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة. كذلك، أخرجت الغارات الإسرائيلية 80 مركزاً صحياً عن الخدمة بشكل كامل، إلى جانب تدمير 162 مؤسسة طبية أخرى.
إبادة إسرائيلية ممنهجة
وخلال أكثر من 15 شهراً، ارتكبت إسرائيل إبادة جماعية في قطاع غزة خلّفت أكثر من 160 ألف شهيد وجريح فلسطينيين، معظمهم من الأطفال والنساء، إلى جانب أكثر من 14 ألف مفقود. وقال القائم بأعمال مدير مستشفى كمال عدوان صخر حمد لوكالة الأناضول إنّ إسرائيل تسبّبت في "دمار كبير في المستشفى وبنيته التحتية، إذ تعرّض للقصف والاقتحام والحرق". وأوضح أنّ فكرة إنشاء مستشفى ميداني (في الخيام) في ساحات المستشفى المدمّر جاءت بهدف تقديم الخدمات الطبية وسط الكارثة الصحية التي تعصف بالقطاع.
وبيّن حمد أنّ وزارة الصحة الفلسطينية في قطاع غزة فعّلت العيادات الطبية في مختلف التخصّصات، كذلك استحدثت عيادة لعلاج سوء التغذية، وسوف تعمل قريباً لفتح قسم الأمراض النسائية والتوليد. أضاف: "لا تتوفّر أيّ إمكانيات، فاضطررنا إلى استخدام الشوادر (من النايلون السميك) والخشب لإقامة خيام كي نتمكّن من خدمة المرضى". وتابع أنّ الأجهزة الطبية متهالكة وعدداً منها احترق بالكامل، لكنّ الطواقم مستمرة في العمل بالمُتاح، مشيراً إلى أنّ "المستشفى تعرّض لدمار كامل ولم يعد صالحاً للعمل، وتقرّرت إزالته".
هذا ما تبقّى من مستشفى كمال عدوان
ورافقت وكالة الأناضول مدير مستشفى كمال عدوان في جولة بداخله لمعاينة حجم الدمار وما خلّفته الحرائق التي أشعلتها قوات الاحتلال الإسرائيلي، الأمر الذي حوّل أقساماً كاملة إلى أنقاض. وفي القسم الخاص بعلاج سوء التغذية، بيّن حمد أنّ الحالات بمعظمها تعاني من مضاعفات خطرة نتيجة الحصار ونقص الإمدادات الغذائية.
من جهته، قال مدير التمريض في مستشفى كمال عدوان عيد صباح لوكالة الأناضول إنّه "أيقونة للعمل الصحي والصمود والتحدي في العالم بعد تعرّضه لهجمة شرسة خلال الحرب" الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة. أضاف أنّ "المكان شهد مجازر عديدة واقتحامات واستهدافاً مباشراً بالقصف المدفعي والطائرات المسيّرة". وأكد أنّ "بعد اقتحام المستشفى، اعتقلت القوات الإسرائيلية كوادر طبية، بمن فيهم مدير المستشفى حسام أبو صفية، ودمّرت المستشفى بالكامل وحرقت أقسامه المختلفة، بما فيها الصيدلية وقسم غسل الكلى وغرف العمليات".
ولفت صباح إلى أنّ "أكثر من 60 من الكوادر الطبية اعتُقلوا، في حين استشهد أكثر من 30 آخرين أثناء تأديتهم واجبهم الإنساني وجُرح العشرات". وشدّد مدير التمريض على أنّ القوات الإسرائيلية لم تحترم القوانين الدولية، بل ارتكبت جرائم حرب من خلال تدمير المستشفى وقتل أفراد من الطواقم الطبية.
وتجوّلت وكالة الأناضول مع صباح في قسم العناية المركّزة الذي دمّره الاحتلال بالكامل على مرأى العالم، وسط مناشدات من دون جدوى. وفي قسم الأطفال، تظهر آثار الدمار في الحاضنات المحروقة، علماً أنّ الطواقم المعنية كانت كافحت لإجلاء الأطفال الخُدج قبل أن تلتهمهم النيران. أمّا بالنسبة لغرف العمليات المحترقة، فأشار صباح إلى أنّ الأدوات الطبية فيها ذابت من شدّة الحرارة، واصفاً ما جرى بأنّه كان "مرعباً".
(الأناضول، العربي الجديد)
