يعد مسجد باريس الكبير منارة إسلامية دينية وعلمية وثقافية عمرها قرن من الزمان، وتحفة معمارية رائعة على الطراز الأندلسي المغاربي، في قلب العاصمة الفرنسية /باريس/.
ويقع المسجد في الدائرة الخامسة بباريس، على مقربة من مؤسسات علمية وثقافية وسياسية وجامعية مرموقة، مثل جامعة السوربون، ومتحف التاريخ الطبيعي، ومعهد العالم العربي، ومجلس الشيوخ الفرنسي، ما يضفي عليه أهمية مضاعفة، ويجعله رمزا للتعريف بالإسلام والحضارة العربية الإسلامية في فرنسا.
ويعتبر مسجد باريس الكبير من أعرق وأكبر المساجد في فرنسا وأوروبا، حيث شيد بين عامي 1922 و1926، بتمويل من الحكومة الفرنسية تكريما للجنود المسلمين الذين قاتلوا إلى جانب القوات الفرنسية في الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918).
وتعود فكرة إنشاء مؤسسة إسلامية في باريس إلى منتصف القرن التاسع عشر، وظلت قيد مشاورات ونقاشات ودراسة مستفيضة حتى تبنتها الحكومة الفرنسية رسميا في ديسمبر عام 1916، حيث أسست "جمعية الحبوس والأماكن المقدسة الإسلامية" في فبراير 1917، أي قبل بناء المسجد بستة أعوام. وكان الهدف الأول للجمعية تنظيم شؤون الحج للمسلمين الفرنسيين، ولا تزال تدير المسجد حتى اليوم.
وفي 29 يونيو 1920، صوت مجلس النواب الفرنسي بالإجماع على مشروع قانون إنشاء معهد إسلامي في باريس، ورصدت له الدولة ميزانية قدرها 500 ألف فرنك، كما تبرعت بلدية باريس بالموقع.
وفي 19 أكتوبر 1922، وضع حجر الأساس للمسجد، وشارك 450 حرفيا وفنانا في بناء هذا المعلم الديني والتحفة الفنية المعمارية على الطراز الأندلسي المغاربي، قبل أن يفتتح رسميا في 15 يوليو 1926 بحضور الرئيس الفرنسي آنذاك غاستون دوميرغي.
ويمثل مسجد باريس الكبير منارة تعليمية وثقافية، حيث يضم مؤسسات تربوية، وأكثر من 70 جمعية إقليمية ومحلية، إضافة إلى 166 إماما وخطيبا يعملون على نشر تعاليم الإسلام وتعزيز قيمه. كما يحتوي المسجد على مكتبة ثرية.
وأقيم المسجد على مساحة 7500 متر مربع في الحي اللاتيني، بميزانية سنوية تقدر بنحو 4 ملايين يورو، ويتميز بتصميم أندلسي مغاربي رائع، حيث ترتفع مئذنته إلى 33 مترا، وتتشابه في زخرفتها ونقوشها مع مئذنة جامع الزيتونة بتونس.
ويضم المسجد حديقة مميزة بمساحة 3500 متر مربع، تتوسطها نوافير مستوحاة من حدائق قصر الحمراء في غرناطة، كما يحتوي على فناء محاط بأروقة منحوتة وأعمدة رخامية نقشت عليها آيات قرآنية وأسماء الله الحسنى.
أما قاعة الصلاة، فتعد تحفة فنية مزخرفة بأنامل حرفيين مغاربيين استقدموا خصيصا لهذا المشروع. ويتميز المحراب بكونه هدية من مصر، بينما تزين سقف قاعة الصلاة ثريا ضخمة تتدلى من قبة مزخرفة بالأحرف العربية الكوفية، وبآيات قرآنية تذكر المصلين والزائرين بعظمة الخالق وعظمة الدين الإسلامي، وتبرز ثراء الهندسة المعمارية للحضارة العربية الإسلامية.
وفي سبعينيات القرن الماضي، ساهم المسجد في تطوير الدراسات الإسلامية في أوروبا من خلال الجمع بين المبادرات الدينية والثقافية والأكاديمية، حيث عمل عميد المسجد السابق حمزة بوبكر، بالتعاون مع محمد حميد الله، على ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية، وصدرت الترجمة الفرنسية للقرآن الكريم عام 1972 عن دار منشورات /فيارد/ في باريس.
وفي عام 1993، أنشأ دليل بوبكر، عميد المسجد آنذاك، معهد الغزالي للعلوم الشرعية الإسلامية، لتدريب الأئمة، كما حصل المسجد بعد عام واحد على سلطة التصديق على اللحوم الحلال.
ومنذ تعيينه في عام 2020، أطلق شمس الدين حفيظ العميد الحالي للمسجد، العديد من المبادرات لتعزيز الحوار والتفاهم الثقافي، من بينها تأسيس المجلس الأعلى للعلوم والثقافة، وإطلاق ملتقى "أربعاء المعرفة"، الذي يجمع المفكرين والمؤرخين والكتاب والعلماء في لقاءات ثقافية شهرية.
وفي تصريح لوكالة الأنباء القطرية /قنا/، أكد شمس الدين حفيظ أن مسجد باريس الكبير هو منارة دينية وثقافية مهمة للجالية الإسلامية في فرنسا، حيث يسهم الأئمة في نشر تعاليم الإسلام الصحيحة وتعزيز وعي الشباب المسلم في المجتمع الفرنسي بأهمية دينهم الإسلامي وأصالة مبادئه وقيمه السمحة.
وأضاف أن المسجد احتفل عام 2023 بالذكرى المئوية لتأسيسه، ويقوم منذ تأسيسه بالتشجيع على تعلم اللغة العربية وتعلم الصلاة وحفظ القرآن الكريم وزرع القيم الإسلامية من خلال مدرسته التي تستقبل كل سنة عشرات الطلاب من أبناء الجاليات العربية الإسلامية في فرنسا.
وأوضح أن أبواب المسجد مفتوحة لكل المسلمين، وتزداد أنشطته الدينية والثقافية والاجتماعية في رمضان، حيث يقدم دروسا فقهية يوميا للتعمق في الدين الإسلامي، ويفتح باب الحوار والنقاش للمصلين، فضلا عن كونه يشهد إقبالا كبيرا في الشهر الفضيل، خاصة في صلوات التراويح والتهجد والعيد.
ولفت عميد مسجد باريس الكبير إلى أن المسجد يؤدي دورا اجتماعيا مهما في الشهر الكريم من خلال إقامته لموائد الرحمن يوميا، وتوزيعه للمساعدات الغذائية والمادية على المحتاجين، حيث يشمل هذا النشاط أكثر من 70 مسجدا وجمعية، وذلك تحت إشراف المسجد، الذي يخصص لهذا النشاط الخيري الرمضاني ميزانية كبيرة.
ومسجد باريس الكبير ليس مجرد مكان للعبادة فحسب، بل هو صرح إسلامي يحمل رسالة حضارية وثقافية، ويجسد روح التسامح والانفتاح والتعايش بين الأديان والثقافات. ومن خلال أنشطته المتنوعة، يواصل المسجد دوره في تعزيز الهوية الإسلامية، ونشر التعاليم الصحيحة للدين، وتعزيز الروابط بين الجالية المسلمة والمجتمع الفرنسي الأوسع.