البعض يقول إن إسرائيل دولة متطرفة بطبيعة تكوينها، وإن كل حكوماتها قد أخذت مواقف شديدة العداء من الفلسطينيين خاصة والعرب عامة، بغض النظر عن كون هذه الحكومة علمانية أم متدينة، قابلة للتفاوض مع العرب أم رافضة، مظهرة ذلك العداء أم مبطنة، يمينية كانت أم يسارية؟ ولو قسنا مواقفها منذ ديفيد بن غوريون أول رئيس وزراء، أو مواقف غولدا مائير أو إيهود باراك أو بنيامين نتنياهو أو حتى إيهود أولمرت فسنجد أنها كانت متطرفة. وكلهم متفق على عدم القبول بقيام دولة فلسطينية مستقلة، خاصة إذا كانت على الأرض المحتلة قابلة للحياة، وكلهم يرفض ألا تكون القدس عاصمة موحدة لإسرائيل.
قد يكون الكلام على المستوى الجمعي والحشد المعنوي لجمهرة الناس صحيحاً في تعميماته، ولكن الجهد العربي المطلوب لمقابلة هذا الموقف الإسرائيلي هو أن نحشد طاقاتنا السياسية والاقتصادية، والمعنوية والعسكرية والأمنية. ولا نستطيع في أي وقت استخدام العمل العسكري أو الأمني، ولكن الجهد السياسي يجب أن يبقى مستمراً. وهذه معركة معقدة، علمية، ذكية تنطوي على برامج استراتيجية وأخرى عملية سريعة. فهل يجوز أن تُبْنى على التعميم بأن إسرائيل، بمكونها اليهودي، ومن يقفون معها من الديانات والشيع الأخرى هم جميعاً متشابهون؟ إذن كيف سنتحرك إذا حكمنا على هذا التحرك بأنه لن يجدي شيئاً؟ هذا التفكير يقودنا إلى أن الحل الوحيد هو مواجهة إسرائيل عسكرياً. وآن الأوان أن نقول ونتساءل: إذا كان هذا هو الموقف من إسرائيل، فمن الذي سيحارب؟ وما هي المدة التي سيصل إليها أمد الحرب؟ وكم من الضحايا والخسائر المادية والبنيوية سيتكبد الجانب العربي؟ وإذا لم نحسب هذه الأمور فستكون النتائج على عكس ما نريد ونشتهي.
والموقف الذي يقول إنه لا حل لمواجهة المشروع الصهيوني إلا الحرب لا يعني أن الحرب ستعلن غداً أو بعد غد. وقول الله تعالى "وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ" ينطوي على معانٍ عميقة يدركها جمهرة الشيوخ والعلماء الأفاضل. ونحن لسنا أمام عدو إسرائيلي فحسب، بل نحن أمام دول عظمى مهما بلغ انتقادها لممارسات إسرائيل من الحدة والتصعيد، فإنها إن شعرت أن وجودها بات مهدداً فسوف تهبّ لنجدتها. هذه الاحتمالات يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار عند اتخاذ قرار الحرب على إسرائيل.
ولكن هذا الرأي الذي أبديه يجب ألا يُفهم منه أنه انتصار لمن يريدون التطبيع مع إسرائيل. وهذا هو صلب الموضوع الذي أود الخوض فيه هنا، فإسرائيل دولة متطرفة، وتحتل أراضي عربية تُعلن صراحة عدم نيتها الخروج منها. وعند الحديث عن غزة، وعند استشهاد أكثر من 53 ألف غزّي، حوالي ربعهم من الأطفال، نسمع نتنياهو يقول إنه سيوقف إطلاق النار فقط لتبادل الأسرى ثم يستأنف تشغيل آلة القتل. والمجتمع الإسرائيلي في أكثريته، وليس كله، سوف يغض النظر عن استمرار الحرب إن سُلِّم المحتجزون الإسرائيليون إلى ذويهم.
ما الذي يعطي الإسرائيليين عامة هذا الشعور بالقوة؟ هنالك أسباب نعرفها وأخرى تحتاج إلى مزيد من التحليل.
أرى أن السبب الأساس هو تفوق إسرائيل التكنولوجي. ويبلغ عدد سكان إسرائيل 10.5 ملايين، ومعدل دخل الفرد لديهم يفوق 57 ألف دولار بالأرقام الجارية. ولكن إسرائيل تعتبر من أكثر دول العالم تقدماً في التكنولوجيا، خاصة في مجال تكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي والطاقة النووية المتجددة. وكذا في الزراعة والمياه. ويسجل الإسرائيليون ما يسمى بالشركات المبتدئة (Start-up Companies) بعدد لا يتفوق عليه إلا الولايات المتحدة ولهم اتصالات مع معظم الجامعات ومراكز البحث المهمة في الولايات المتحدة وأوروبا، والهند، وحتى مع بعض مراكز الصين. وقد طوروا وسائل التجسس والدفاع السيبراني والطائرات المسيرة بفعالية. وقد رأينا آثاره في الاغتيالات الجماعية لقادة حركات المقاومة. وقد استطاعت من خلال ذلك زرع أنظمتها الرقابية وأجهزة المتابعة (tracking) في المواقع الاستراتيجية كالمطارات ومحطات القطارات، ومستودعات الطاقة، ومحطات الكهرباء والشوارع الرئيسية والأمنية الحكومية في كثير من دول العالم، بما فيها دول عربية.
لقد أعطت هذه الميزة الإسرائيليين القدرة على أن يكونوا وسطاء تكنولوجيين حتى للدول التي تريد أن تنمّي علاقاتها مع الولايات المتحدة. وقد نجحوا في استثمار هذا التفوق التكنولوجي رغم انهيار سمعته يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023. وجزء من "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة" يتطلّب منا نحن العرب أن ننمّي قدراتنا التكنولوجية. والسؤال هو: هل ستعطينا الولايات المتحدة ما ينفعنا في تحييد تفوق إسرائيل التكنولوجي؟
أما البعد الآخر فهو البعد الاقتصادي. فإسرائيل حققت نجاحاً في زيادات صادراتها السنوية إلى حوالي 160 مليار دولار، محققة فائضاً في ميزانها التجاري. وبلغ الناتج المحلي الإجمالي عام 2024 حوالي 590 مليار دولار. علماً أن معدلات النمو السنوي التي بلغت حوالي 6% عام 2022 قد هبطت إلى 2% و1.6% عامي 2023 و2024 على التوالي. وبحسب تقديراتهم فإن كلف الحرب في غزة قد وصلت إلى أكثر من 60 مليار دولار.
ولكن مما لا شك فيه أن الاقتصاد الإسرائيلي يشكّل ثاني أكبر اقتصاد داخل المنطقة بعد المملكة العربية السعودية التي فاق ناتجها المحلي الإجمالي 1.1 تريليون دولار، ويزيد على ما حققته الإمارات ومصر بصفتيهما ثاني وثالث أكبر اقتصادات عربية على التوالي. ولكن الاقتصاد الإسرائيلي متنوع وقابل للنمو، وهو الذي مكّن إسرائيل من زيادة إنفاقها العسكري وجعل خسائرها الاقتصادية التي تكبدتها في الحرب على غزة تبدو قابلة للاستيعاب. ولكن يجب ألا ننسى أن هناك مؤشرات يجرى التعتيم عليها عن عدد المهاجرين إلى خارج إسرائيل. ولكن غالبية هؤلاء هم من العلمانيين والراغبين في العيش بعيداً عن قلق المنطقة وحروبها المستمرة. ولذلك ترتفع نسبة المتطرفين المتدينين داخل إسرائيل وتزيد من متانة قبضتهم على الحكم.
أما البعد الثالث فهو نجاح الحركة الصهيونية في تثبيت الفكرة (أو الوثن الفكري كما يسميه فرانسيس بيكون) بأن اليهودية والمسيحية هما حضارة واحدة متكاملة. ومن خلالها قالوا إن قيام إسرائيل هو شرط سابق لعودة المسيح المنتظر إلى الأرض. أي حضارة مسيحية يهودية تلك التي يتحدثون عنها ومن أين أتت؟ وهل يؤمن اليهود مثلاً بالسيد المسيح؟ أم ماذا يقولون عنه؟ لقد كان اليهود مضطهدين في أوروبا ومتهمين بأشياء كثيرة. وفي أدبيات الغرب فإن شخصيتي شايلوك الشيكسبيرية في تاجر البندقية وشخصية فيغن (Fagin) التي صورها شارلز ديكنز في قصة أولفر تويست هما من أكثر الصور تجسيداً لهذا البغض. وحتى فكرة "الرجل مصاص الدماء دراكولا" مستوحاة من العداء لليهود.
إذا كان هناك حضارة، فهي الحضارة المسيحية الإسلامية التي امتزجت وأنجبت إنجازات هائلة للبشرية. وحتى اليهود ترعرعوا وأبدعوا فيها، من مترجمين مثل إسحق بن حنين. ولا ننسى الأندلسي أو الفيلسوف القرطبي، ابن ميمون، الذي صار طبيباً لصلاح الدين الأيوبي، والعائلات اليهودية التي حكمت إبان الفترة العربية في الأندلس، وكذلك الشعراء مثل ابن حمديس، وغيرهم. كل ما كتب عن حضارة مشتركة مسيحية يهودية هو من صنع الخيال. وحتى قيام إسرائيل كان مدفوعاً داخل المملكة المتحدة بالرغبة في ترحيل اليهود عن بريطانيا العظمى إلى مكان آخر. ومن العجيب أن الحديث عن هذا الإرث المشترك يأتي في زمان تتحدث فيه الحركة الصهيونية عن "اللاسامية" وعن "الهولوكوست" وهما اصطلاحان مستوحيان مما تعرض له اليهود في أوروبا وليس عندنا.
إن نجاح الحركة الصهيونية في شيطنة العرب والفلسطينيين وقدرة هذه الحركة على العمل داخل الولايات المتحدة، خاصة بعدما استطاعوا ضبط الحركة المكارثية التي قامت ضد الشيوعيين واتهم كثير من اليهود بالتجسس لصالح روسيا الشيوعية بعد الحرب العالمية الثانية وطوردوا، لكنهم تفوقوا في النهاية واستطاعوا أن يدخلوا إلى مرافق كثيرة كانت محظورة عليهم، مثل الجامعات المتدينة، وبخاصة جامعة هارفارد المؤسسة في النصف من القرن السابع عشر والتي منع اليهود من دخولها لمدة ثلاثة قرون.
كل هذه الأفكار طورت بعد الحرب العالمية الثانية ومهدت لليهود ولإسرائيل أن يصبحوا حلفاء. والآن يجب على كل من يتعامل مع إسرائيل أو مع من تؤيدهم إسرائيل الانتباه والحذر، فالذين يرى غالبيتهم أن قتل طفل في فلسطين مباح لأنه قد يقتل يهودياً عندما يكبر هو نفسه سيفكر ماذا سيفعل به العربي المتطور القوي العالم بأمور التكنولوجيا والمتمكن اقتصادياً لو أتيحت له الفرصة.
هناك بداية تغيير واضحة في الموقف المعنوي والإعلامي لإسرائيل لصالح الفلسطينيين، وهذا أمر يجب أن يستثمر بذكاء حتى لا يكون هذا التأييد مجرد ردة فعل إنسانية على ما يجري في غزة ثم تطويه أمواج التغيير بعد ذلك ويصبح نسياً منسياً.
