مع سعد البازعي

منذ ٥ ساعات ١٦

تابعتُ ما أثير من جدلٍ بعد حلقة من برنامج "مخيال"، الذي يقدّمه عبد الله البندر. وكان اللقاء مع الناقد والأكاديمي والمترجم السعودي، سعد البازعي، حين رمى المذيع سؤاله الساخن المتعلّق بكاتب الروايات "الخفائفية"، السعودي أسامة المسلم، الذي ذاع اسمُه بعد واقعة معرض الرباط الدولي العام الماضي (2024)، حين تدخّلت الشرطة لتفريق جمعٍ من الطلبة من فئة 12-17 سنة، احتشدوا لأخذ توقيعه على كتب اقتنوها له. أبدى البازعي ما يدلّل على عدم تذوّقه روايات المسلم، واعتبارها لا ترقى إلى ما يعرفه من روايات، وقد أتى بأمثلة لكتّاب سعوديين متحقّقين روائياً.
الملاحظ أن حديث البازعي كان عن كتابات المسلم، وليس عن شخصه، ولكنّ ردّ المسلم، الذي شاع لاحقاً ذهب إلى الذات، حين اعتبر البازعي "منفصلاً عن الواقع"، بل "ديناصوراً"، وهي عبارات قدحية تخرج من سياق الأدب (بمعنييه).
تجاوز الكاتب الشابّ اللياقة بإطلاق كلمة "الديناصور" على ناقد كبير عمراً وقيمةً، قياساً بالشابّ الكاتب، وكأنه يسدّ الطريق على كلّ من ينتقد كتاباته مستقبلاً، وكأنّ الذين كتبوا مقالات حول رواياته بسبب تبسيطها (وليس بساطتها)، وتسرّعها، وتهافت أسلوبه و"كوكتيل" محتواه الأدبي، ديناصورات كبيرة، بُعثت من جديد من أجل غرض واحد؛ ألا يعجبوا بروايات المسلم الرائجة بين صبيةٍ لن يلبثوا مع تقدّم العمر أن يتخلّوا عنها، أو ينطلقوا منها إلى كتب أكثر أهمّية وعمقاً. لم يتحمّل المسلم وجهة نظر ناقد معروف، تتميّز أطروحاته ببعدها الفكري، وهو إذ يشير إلى روايات المسلم نموذجاً، لا أظن أن لديه موقفاً صارماً ونهائياً منها، بقدر ما تكون عين نقده على المرحلة، وقد استوقفتني عبارته أن هذه الروايات يمكن أن تُقرأ بأدوات النقد الثقافي، بغرض معرفة السبب وراء انجذاب الشباب إليها، ومن ثم، لا يمكن قراءتها ضمن مناهج النقد الأدبي الجمالي، لأنها خِلْوٌ منه، إلّا في حدوده التوصيلية الدنيا. يمكن كذلك إضافة أن الجيل السابق كانت نشأته على روايات ذات طابع تعليمي تاريخي، وأبرز أمثلتها روايات جورجي زيدان. وفي هذا السياق، أشير إلى بطل رواية "شريد المنازل" للبناني الراحل جبور الدويهي، وهو ابن لصاحب مكتبة، حين قرّر بيعها وإغلاقها أخذ منها فقط سلسلة روايات جورجي زيدان، من أجل أن يقرأها ولده، إذ ظلّت هذه الروايات تصاحبه في كلّ منزل ينتقل إليه.
ما نعرفه أن الكاتب ما إن يصدر كتابه حتى يكون قد رماه في حلبة القراء، وليس من حقّه بعد ذلك أن يتدخّل في أذواقهم، مهما كان مستواها، لسبب بسيط، أن العمل بعد أن يُطبع لن يعود في ملكية الكاتب وتصرّفه، فسيدخل هنا طرف جديد، "القارئ المجهول"، الذي من طبيعته التنوّع واللاتشابه. وإن تدخّل الكاتب بعد ذلك في الدفاع عن عمله، فلن يكون لتدخّله قيمة، ويعتبر تعدّياً على حقٍّ من حقوق القارئ، إلا في حالة واحدة، هي أن هذا القارئ قد تعرّض لشخص الكاتب تعرّضاً مباشراً صريحاً. وهو ما لم يحدث فيما رأينا وسمعنا في المقابلة الآنفة مع البازعي، بل كان حديث الناقد منصبّاً على روايات يصعب أن تُكمِل قراءتها، كما قال، وإذا تكرّمت بقراءة عشرين صفحة منها، فأنت قد تجاوزت ذائقتك.. ولم لا: قد خنتها. وهي ذائقة مؤسّسة على قراءة أدب تكون البلاغة العنصر الأساس في تكوينه.
يمكن أن نلاحظ كثيراً تضخّم الذات لدى بعض الكتّاب، بعد أن ينالوا شهرةً بسبب فوزٍ بجائزة أو بعد إقبال جماهيري على أعمالهم، ما يجعل ذواتهم تتضخّم حول أعمالهم التي لا تقبل المساس. ونتج من ذلك هشاشة كبيرة في الجو الأدبي العربي، ما أدّى بالنقد إلى الميل نحو الحذر والمجاملة والخداع، بدل المصارحة والشفافية، لأن الأمر يتعلّق بحقٍّ من حقوق القارئ أيّاً كان، ما دام أنه لم يتطرّق إلى ذات الكاتب فيشخصن قراءته.
غنيٌّ عن القول إن تراثنا الأدبي العربي مليء وغنيٌّ بالنقد الذي أدّى إلى إثراء الأدب والنقد وتطوّرهما معاً. مثلاً، الكتب التي أُلِّفت في شعر المتنبي بين المهاجمين والمدافعين، والعلاقة الهجائية الطويلة بين الفرزدق وجرير، ذلك كلّه لم يمنع الأخير من رثائه بعد رحيله.

قراءة المقال بالكامل