تحدث الكارثة الطبيعية هنا فتمتد آثارها المدمرة بعيداً جغرافياً وعميقاً في التاريخ. لكن أن يكون لها آثار إيجابية، فهذا ما لا تتناوله الأقلام في العادة إذ غالباً ما يعقب الفيضانات دراسات، وخطط إعمار، وبرامج لدرء الآثار السلبية، ذلك ما حدث من تغيير ومراجعات لهندسة المباني وقنوات الري بعد فيضانات 1910 و1946 و1988 في السودان. وأيضاً عندما اندلعت الحرب في 15 إبريل/نيسان 2023 تحدث الجميع عن الخسائر الفادحة في الأرواح والممتلكات والموارد الطبيعية، ولم يذكر سوى قليلين ما يمكن أن يجنيه البشر من الحروب، وما يمكن أن تكتسبه البيئة بعد الخسائر الفادحة على صعيد ما تخلّفه الكارثة من وعي.
بعدما توقفت حرب الجنوب عام 2005 زرنا مناطق الكدالو جنوب النيل الأزرق جنوب شرقي السودان، ووجدنا أن الغابات استعادت عافيتها بسبب توقف نشاط تجار الخشب، وحدثنا الأهالي عن عودة أنواع عدة من الحيوانات والطيور التي نزحت إثر تعدي الرعاة وصانعي الحطب على موائلها، وأيضاً أصحاب الأطماع في زراعة المساحات الواسعة من دون مسوغ قانوني، وبحماية المسؤولين العسكريين، ومعظمهم من العسكريين المتقاعدين وذويهم، تمهيداً لامتلاك هذه الأراضي في ما بعد، ولا عزاء للتنوع الأحيائي، ولا للسكان الأصليين.
وقد أوقفت الحرب هذه الأنشطة رغم أنها جاءت بأخرى كثيرة مدمرة للبيئة، منها ما أزيل ضمن برامج استعادة الحياة وبناء السلام. عندما يكون الهدف هو ترسيخ قيمة، ورفض سلوك قائم، يبقى على من يملك الأدوات السعي إلى التغيير الذي يرتكز على الاعتراف بوجود خلل، والشروع في غرس بذرة التخلّي عنه، ودفع الفئة المستهدفة إلى محاولة نزع ما في النفوس من أفكار ومعتقدات معيقة للتقدم، وإحلال الأفكار السليمة محلها.
ومن بين البرامج المنفذة التي عملنا عليها ترسيخ مبادئ السلام من المنظور البيئي، وكنا حين نتحدث عن إفساد الأنظمة البيئية نهدف إلى مقاربة الأمر لدى من أزاحتهم الحرب من ديارهم، ليتم التأمل في العلاقة بين إفساد الحياة والبيئة، ففي برنامج تثقيفي يعتمد الأغنيات والمسرحيات القصيرة، يردد الأطفال:
"وجد الكون مخلوق موزون
قبل دخول من يفسدون
قتلوا... قطعوا... هلكوا... نزعوا".
ووقفت إحدى الأمهات لتقول: "تعدى القتل الحيوانات المهددة بالانقراض إلى البشر بكل أنواع الأسلحة. وتعدى القطع الغابات إلى العلاقات بين المواطن ومؤسساته، وطاول النزع الناس من بيوتهم، والأمن من النفوس، والطفل من صدر أمه". وقال آخر: "بالنسبة لنا يمكن اختراق المجتمعات المختلفة إثنياً برسالة التعايش السلمي، وضمان قبولها لدى كثيرين، فماذا تقول حين تجد ابنتك والأطفال في الشارع يرددون ما يذكرك بقيم المحبة والسلام ورفض العنصرية، وحماية البيئة؟".
