رغم هدوء المكان ظاهرياً في "مكتبة النُّوري" بدمشق، إلّا أنّ التفاعُل الفكري وحتى السياسي لم يغب عنها يوماً، والتغيُّرات التي كانت خفيّة صارت اليوم علنيّة، إذ لم يكن مسموحاً اقتناء كتب وروايات مناهضة للنظام، لكنّها كانت تُباع هناك للخاصّة، رغم وقوع المكتبة على مسافة عشرات الأمتار من مقرّ وزارة الداخلية.
تأسّست المكتبة عام 1932، وهي بذلك واحدة من أقدم المكتبات الأهليّة في البلاد، فأغلب المكتبات التي أُنشِئت في فترة زمنية قريبة منها أقفلت، مثل "دار اليقظة العربية"، و"مكتبة ميسلون"، و"مكتبة نوبل"، وغيرها، لكنّ أبناء مؤسّس المكتبة محمد حسين النوري، يرفضون إغلاقها، وإن كان الشكّ يُخامرهم في أنّ الأبناء لن يُقدموا على ذلك في المستقبل.
التقَت "العربي الجديد" عُمر النُّوري، وهو ابن مؤسّسها وأحد مُديريها، الذي يرى أنّ "المكتبة جزءٌ من تاريخ دمشق الفكري، ولذلك لن تُغلق أبوابها"، ويُضيف: "ظلّت المكتبة منفتحة دائماً على كلّ التيارات الفكرية في البلاد، وعلى خلاف عدد من المكتبات الأُخرى التي تقولبت في تيار فكري محدّد، يُمكنك أن تجد هنا كُتباً في الدِّين إلى جانب الكُتب الماركسية والليبرالية، كذلك جمعنا كتبَ التراث بالحداثة الأدبية. والدِي المُؤسّس، ومن ثم جيل الأبناء، كُلّنا تمسَّكنا بهذا النهج، فكانت المكتبة بالنسبة إلينا مشروعَ حياة، وإن كانت طبيعة العصر الراهن، وشكل الفعاليات التجارية تعتمد على متغيّرات تقنية سريعة تفرض سطوتها، وربّما لن تكون المكتبة قائمة في المستقبل، وسيكون مصيرها كمصير المكتبات التي سبقتها".
شاهدة، منذ تأسيسها عام 1932، على أحوال الثقافة السورية
لعقود طويلة ظلّت "مكتبة النُّوري" مَعنيّة بعرض الكتب والترويج لها وبيعها، حيث كانت وكيلة للعديد من دُور النشر العربية والعالمية، مثل "دار العِلم للملايين"، و"مكتبة لبنان"، و"دار الآداب"، و"دار المعارف"، فضلاً عن الكُتب التعليمية الصادرة عن الجامعات ومراكز الأبحاث، وبلغ عدد العناوين التي تحويها خمسين ألفاً.
كذلك ساهمت المكتبة الدمشقية بحركة النشر، واختصّت بالكُتب القانونية، فصارت مرجعاً مهمّاً لطلّاب كليّة الحقوق في "جامعة دمشق"، وتحوّلت إلى ملتقى لهم على اختلاف مراحلهم الجامعية. وضمن هذا السياق، يُتابع عُمر النوري حديثه إلى "العربي الجديد": "عملنا على بيع الكتب القانونية، وبعدها قمنا بالنشر فيها، الأمر الذي قدّم إلى المكتبة مورداً ماليّاً استطاعت من خلاله الثبات أمام المتغيّرات التجارية الخانقة التي تعرّضت لها مكتبات دمشق والتي أوصلتها إلى الإغلاق. فلولا الكتب الحقوقية، لما تحقّق لنا الاستقرار المالي، وبالتالي الاستمرار. قبل أعوام توسَّعنا في عملنا وأسَّسنا فرعاً لنا باسم 'عالم المعرفة'، وكان في وسط البلد، لكنّنا أوقفناه تحت ضغط العبء المالي، وهناك تتكدّس الآن الكتب تحت الغبار".
ويُضيف الكُتبي السوري: في الماضي كان لنا حضور أقوى بالطبع، نفتحُ الأبواب باكراً، ونستمرّ بالعمل حتى الثامنة ليلاً، وغالباً حتى العاشرة. أمّا في السنوات الأخيرة، فلا نجد هذا الجوّ، نحن نعمل الآن بمعدّل سبع ساعات يومياً، نفتح في التاسعة ونقفل في الرابعة، الركود الآن كبير، فالهمُّ الاقتصادي يُلقي بظلاله على الناس، لقمة العيش أَولى والواقع الاقتصادي الحالي صعب وغير مسبوق".
بدأت تظهر الكُتب التي كُنّا نبيعها خفيةً عن أعيُن الأمن
وعن المتغيّرات التي يلمسها في تفاعُل القرّاء مع المكتبة، يرى عمر النوري أنه "قبل عام 2011 كان الكتاب الديني في المقدمة، ثم كتب التنمية البشرية والإدارية، ثم الروايات، ومن بعدها كُتب الأطفال. لكنّ الأحداث السياسية التي عصفت بالمنطقة تركت أثراً جوهرياً على الناس، فتراجع دور الكتاب الديني للمرتبة الرابعة، وحلّ في المقدّمة نشرُ الرواية، ثم كتُب الأطفال أو التنمية البشرية". ويُرجع النُّوري الابن هذا التحوُّل إلى "الوضع المالي لمهنة النَّشر ككُلّ التي عزّزت مكانة الرواية لدى القارئ، فمعظم ما يقدّم في الرواية نُسخ مترجمة لروايات عالمية، تُترجم وتُطبع بعيداً عن اتفاقيات النشر مع الجهات المعنيّة، وهذا ما يعني توفير هذه الكتب بنِصف قيمة نظيراتها الأصلية التي تدخل نظاميّاً من خلال اتفاقيات النشر الرسمية، ففي ظلّ الوضع الاقتصادي الصعب، ما يهمّ القارئ هو السّعر المناسب، فضلاً عن المادّة الأدبية الجذّابة".
وفقاً لرئيس "اتحاد الناشرين السوريين"، هيثم الحافظ، فإنّ الاتحاد قد شهد انضمام ثلاث عشرة دار نشر جديدة في عام 2021، الأمر الذي يُعتبر مؤشّراً، إلى حدٍّ ما، على أن جمهور القراءة في تزايُد رغم كلّ المعوقات، وإن كانت هناك نظرة شائعة توحي بأن المواطن العربي لا يُحقق نسب قراءة عالية سنوياً. وحول هذا التفصيل، يرى النوري أنّ "الأجيال السابقة لم تكن تعرف الإنترنت ولا الكتب الإلكترونية التي غزت يوميّات الجيل الشابّ، اليوم، وصار من خلالها قادراً على قراءة الكتب بلغات أجنبية". ويستدرك: "لكنّ وجود الكتاب الإلكتروني لم يلغِ اهتمام الشباب بالقراءة، حيث ألمسُ يومياً من خلال وجودي في المكتبة أنّ الشباب ما زالوا يهتمّون بالقراءة، وهُم يستهدفون أولاً الرواية ويعرفون سوق الروايات العربية والعالمية ويتابعون واقعها وجوائزها، فيسألون عن آخر إصداراتها وترجماتها لو كانت عالمية. جمهور الرواية ما زال جيّداً ومتابعاً بشكلٍ يوميّ لما يصدُر".
شهدت المكتبة على تاريخ سوري مديد، وهي اليوم تعيش أحداثاً غير مسبوقة تتمثّل بإسقاط السوريين لنظام بشار الأسد، وصحيحٌ أنّ حركة البيع انكمشت في الأيّام الأولى بعد سقوط الطاغية، وفقاً للنوري الابن، الذي وضّح لـ"العربي الجديد" أنه "سرعان ما استعادت حركة البيع عافيتها وعادت تدريجياً للحيوية، بل وللحركة الفعّالة التي كنّا قد افتقدناها منذ فترة طويلة. فبعد وقت قصير من إسقاط النظام، في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر الماضي، بدأت تظهر الكُتب التي كُنّا نبيعها خفيةً عن أعيُن الأمن. كتبٌ تتناول الشأن العام والحرّيات السياسية وبعض الشخصيات المعارضة، كُنّا نبيعها للخاصّة من تحت الطاولة، فصرنا اليوم نبيعها علناً، وهذا ما اجتذب طبقة المثقّفين والصحافيّين للاطّلاع عليها وشرائها، ونحن نبيع يومياً نُسخاً جديدة منها".
لا شكّ في أنّ نشْر "مكتبة النوري" للكتب التي كانت ممنوعة وصارت متاحة في سوريّة الجديدة، سيولّد مع الأيّام حالة تفاعُل أكبر معها من جمهور القرّاء، بسبب كَمّ المعلومات المُوثّقة التي تحويها وسَبرها لعوالم النّظام الديكتاتوري، ومن أبرز هذه العناوين التي تُطالعنا على رفوف المكتبة: "سورية في عهدة الجنرال الأسد" لـ دانييل لوغاك، و"دروب دمشق: الملفّ الأسود للعلاقة الفرنسية السورية" لـ كريستيان شينو وجورج مالبرنو، فضلاً عن كتب عديدة تتناول الهالة الرمزية التي اصطنعها الطاغية الأسد الأب لنفسه من خلال بثّه صوره في الفضاء العامّ، وإلحاق اسمه بالمرافق والمؤسسات، وأُخرى تتطرّق إلى مسألة توريث الجمهورية من الأب إلى الابن المخلوع، وآليّات الفساد والاستبداد التي حكمت البلاد لأكثر من خمسة عقود.
