قبل أن يصبح "بابا الهادي" المحبوب من الجميع، لم يكن الفنان البحري الرحالي (1957)، ليحضر في أذهان جمهور الدراما في تونس إلا في صورة نمطية لممثل صاحب دور ثانوي ونمطي كمجرم أو متحايل. هذه الصورة، التي لاحقت الرحالي في حضوره التلفزيوني، كانت نقيضاً لتجربته المتنوعة في المسرح، بداية من سبعينيات القرن الماضي في مسقط رأسه مدينة الكاف وصولاً إلى العاصمة تونس؛ والتي بالرغم من ثرائها، ظلت محجوبة عن الجماهير الواسعة، في ظل قرار القائمين على صناعة دراما الشاشة بألا يُرى الرحالي في غير ما اختاروه له. وهم أنفسهم الذين اختاروا في ما بعد نسيانه، وأخيراً إعادة الاعتبار له والدفع به نحو النجومية.
وحكاية الرحالي هذه ليست سوى نموذج لتجارب أجيال من المسرحيين ممن اختاروا دخول عوالم التمثيل الدرامي، لتختلف بذلك مصائرهم، فبعضهم نجح، وآخرون فشلوا. أما البعض الآخر فقد قطع علاقته بماضيه المسرحي. مع ذلك ظل معطى واحد يجمع بينهم جميعاً: خضوعهم لماكينة صناعة فرضت إرادتها وأولوياتها عليهم.
في الواقع، تكمن المفارقة في أن بدايات العصر الذهبي للمسرحيين التونسيين جاءت مقترنة بالرغبة في الاستقلال عن الأطر كلها التي تقيد حريتهم، خاصة أو عامة، إذ تشكلت أمجاد هذا الفن من فرق الهواة في العاصمة مع تجربة حركة الطليعة الأدبية في مطلع الستينيات، وخاصة في الجهات مع فرقتي الكاف المسرحية (1967)، وفرقة مسرح الجنوب بقفصة (1972). جاءت جل هذه التجارب تكريساً للأفكار التقدمية الرائجة وقتها: مسرح مستقل وذاتي التمويل، ومسرح جماعي مناهض للسلطة ومنحاز للفئات المهمشة.
فرَض الإنتاج الخاص قواعده ولم تعد الموهبة معيار الاختيار
عن تلك الفترة وعن الارتباط الوثيق للمسرح ببيئته الشعبية الخاصة، يتحدث البحري الرحالي، ابن فرقة الكاف ومؤلف "كاف العجايب"، عن أبناء المدينة ممن كانوا مستعدين، ليس فقط لقطع تذاكر مسرحيات الفرقة المعروضة في الكاف، بل والانتقال معها في عروضها عبر البلاد أيضاً، موفرين بذلك الدعم المعنوي، وخاصة المالي الكفيل بضمان استمراريتها واستقلاليتها لحين. وهكذا أنجبت تلك الحقبة درر المسرح التونسي، ومنها: "الكريطة"، و"عمار بالزور"، و"عطشان يا صبايا". كما صقلت مواهب جيلين من الممثلين ممن لم تعد خشبة المسرح قادرة على احتواء مواهبهم أو إبداعاتهم، ليغادروه بذلك بداية نحو السينما ثم الدراما التلفزيونية.
وفي الدراما تحديداً، تضاعفت شهرتهم حينما توافرت شروط شتى: لوجستيات التلفزة الوطنية وتمويل دولة سخية، ومخرجون كبار. وبداية من أواسط التسعينيات، توالت إنتاجات الدراما مع مسلسلات مثل "قمرة سيدي المحروس" و"منامة عروسية"، ونال المسرحيون القسم الأكبر من نجاحاتها. وتدريجياً، مع توالي النجاحات، طلق كثير منهم المسرح، مثل منى نور الدين، أو قلّت مشاركتهم فيه إلى الحدود الدنيا. ومن بين الجميع قلة قليلة، من بينها الأمين النهدي، حافظت على ميلها الصريح للمسرح. ومع تفضيل الشاشة، تفككت الفرق الرئيسية أو تحول نشاطها مع الوقت لنشاط متواضع غير جماهيري. وحتى أواخر المسرحيات الكبرى من إنتاج تلك الفرق، مثل مسرحية "علمني"، صار رواجها مقترناً بتسجيل التلفزة الوطنية لها وبثها المتواتر.
وبذلك زاد اتكال المسرحيين - ومعهم جمهورهم - على الدراما الوطنية، وأمسى القرب تبعية. وفي سكرة النجاحات، غفل الجميع عن تغييرات بنيوية خفية أثمرت نتائجها إثر 2011، حيث هرم جيل المسرحيين وتراجع إنتاج الدولة الدرامي، وظهرت مواقع التواصل وشركات الإنتاج ثم القنوات الخاصة. وتجربة المخرج سامي الفهري، صاحب شركة الإنتاج ثم القناة الخاصة، أمست عنواناً للمرحلة الجديدة. ومع مسلسلات مثل "مكتوب" (2008-2014)، و"أولاد مفيدة" (2015-2020)، دشنت معالم حقبة استعيض فيها عن الممثلين المسرحيين لصالح وجوه جديدة قادمة من عوالم مختلفة. لم يقتصر الأمر على انتزاع أدوار البطولة، بل جاوزه لما يقارب الغياب الكلي. ونسي كثير من المسرحيين، من أمثال عيسى حراث وغيره ممن أمسوا ذكرى من الماضي، خاصة أن محاولات الكثير منهم للعودة للمسرح من جديد باءت بالفشل أو لم تمنحهم الشعبية والحضور اللذين عوّدهم عليهما التلفاز.
تفكّكت فرق المسرح وصار نشاطها متواضعاً مع تفضيل الشاشة
فرض الإنتاج الخاص قواعده وشروطه على الجميع، ولم تعد الموهبة الصرفة المعطى الوحيد للاختيار في "كاستينغات" فضلت في أحيان كثيرة معايير الجمال والعشوائية والشهرة واكتشافات المخرج الأولى، على حساب المسرحيين المتطلبين وصعبي المراس. وتواصلت الممارسة، مع الجيل اللاحق للفهري، كمساعدته الأولى سوسن الجمني التي أمست بعد غيابه مخرجة قناته الأولى وغيرها. من القطاع الخاص، تسربت الظاهرة، وصولًا للقناة الرسمية الأولى.
حادثة من كواليس الإنتاج الدرامي لهذه السنة كافية لتلخيص كل ما سبق: في حوار إذاعي لناجية الورغي، إحدى أقدم الفنانات المسرحيات في فرقة الكاف، وصاحبة الأدوار الدرامية الملحمية، عبرت فيه عن امتعاضها من أجواء تصوير مسلسل "الرافل" الذي شاركت فيه والمعاملة غير اللائقة التي تلقتها. لم تطل المدة ليتدخل مخرج العمل في رد صادم: "الورغي ما نعرفهاش. وهي كمرأة كبيرة نراها نشق بيها الكياس". تصريح على عنفه، حمل واقعاً أعنف: أكلت التلفزة مسرحييها ثم لفظتهم للنسيان.
وكما لم يدم النجاح يبدو أن النكران لا يدوم أيضاً. ففي وسط هيمنة حقبة دراما الفهري، ظهرت تجربة أخرى مختلفة في مضامينها وجمالياتها ووجوهها، هي تجربة المخرج الشاب عبد الحميد بوشناق. لم يدخل بوشناق الدراما من بوابة المسرح، بل السينما. ولكنه جلب معه طاقم تمثيل رافقه في كل أعماله من "النوبة" (2019-2020)، فـ"كان ياماكانش" ووصولًا لـ"رقوج"، الذي بث جزؤه الثاني هذه السنة.
"عبد الحميد جاءنا للمسرح واختارنا"، هكذا تحدث الرحالي، أحد أبرز أبطال مسلسلات بوشناق، وتحديداً بدور "بابا الهادي" في "النوبة". لم يتردد الرحالي بأن يصرح امتناناً لمخرجه، وفضله عليه وعلى جيل أصغر من الشباب ممن لم يعرفوا الجماهيرية وإنما دفعهم نحوها، صانعاً حوله حلقة من شبان المسرح لا يستعيض عنها إلا في القليل النادر بممثلين آخرين، وسرعان ما صارت تنعت زهواً وأحياناً حسداً بـ"شلة بوشناق".
وعلى عكس المخضرمين القدامى، لم تكن نقلة عناصر هذه الشلة بالضرورة سهلة؛ فالتمثيل أمام كاميرا خاوية وتكرار المشاهد عشرات المرات مختلف عن تلك اللحظة التي يندفع فيها الممثل على المسرح مواجهاً جمهوره للمرة الأولى وربما الأخيرة. ولكنها نقلة على قدر ضروريتها سهلة وممكنة بل وممتعة.
هذه المقارنة تمت في أجواء من التفاؤل الذي صنعته نجاحات بوشناق. نجاحات بثت دماء جديدة في الدراما، وأعادت اعتباراً لصنف من الممثلين الذين همشوا لعقد أو أكثر. ولكن هل من الممكن لمثل هذا التفاؤل أن يستمر؟ أو لعله دورة أخرى من تقلبات علاقة المسرحيين بالدراما وبالإنتاج في القطاعين العام والخاص؟ هي تساؤلات تظل ملحة اليوم، خاصة أن المسرحيين، وعلى امتداد هذه التقلبات، منحوا للشاشة نجاحات مسرحياتهم وخلاصة مواهبهم وجماهيرهم دون أن ينجحوا في المقابل - باستثناء مرات نادرة - في جذب جماهير الشاشة العريضة، وصناعة الإنتاج الضخم، نحو خشبة المسرح. ولعل في هذا الفشل بالذات يكمن سر هشاشة حال المسرحيين.
* كاتب وباحث من تونس
