منازل غزة... خطر الموت تحت أعمدة وأسقف متهاوية

منذ ٢ شهور ٣١

يتعايش أهالي قطاع غزة مع واقع المنازل الخطير نظراً لغياب البدائل في ظل الدمار الهائل الذي طاول القطاع، وارتفاع إيجارات البيوت المتبقية، مع شح الخيام وعدم إدخال البيوت الجاهزة.

خلّف العدوان الإسرائيلي تداعيات خطيرة تلاحق أهالي قطاع غزة منذ وقف إطلاق النار، إذ تتدلى أعمدة وبقايا أسقف المئات من البيوت التي تعرضت طوابقها العلوية للاستهداف، ما يعرضها لخطر الانهيار، إضافة إلى سكن الأهالي بمنازل مائلة فقدت أعمدة عدة نتيجة القصف والنسف ما يجعلها آيلة للسقوط.
في منطقة النصر غربي مدينة غزة، يشكل "برج أبو الحسن" أحد أخطر المباني الآيلة للسقوط في المدينة نتيجة تعرّض الطوابق السفلية للنسف والتفجير، وقصف نصفه بالطائرات الحربية، وبفعل النسف انهارت الطوابق العلوية للبرج المكون من 14 طابقاً بشكل رأسي، بحيث باتت الطوابق السبعة المتبقية تقف على أعمدة متكسرة مع ميلان كبير يعني أن انهيارها على البيوت المجاورة المسكونة وشيك.

لا تتوقف حركة المارّة من أمام البرج الواقع في منطقة حيوية، إذ لا يبعد سوى خمسين متراً من شارع الشفاء الرئيسي. يقول وائل زياد، وهو مقيم في محيط البرج، لـ "العربي الجديد" إن "سقوط البرج وشيك، وسيؤدي إلى كارثة، ومنذ عدت إلى منزلي ألاحظ زيادة الميلان يوماً بعد آخر، فقبل أسبوع واحد كنت أرى من منزلي نوافذ الطوابق العلوية، واليوم لم أعد أراها نتيجة الميلان".
إلى جوار البرج الفارغ من السكان، تعيش عائلة النونو في منزلها، وهناك بيوت أخرى مجاورة مسكونة، ويحذّر زياد من أن "أي انهيار مفاجئ قد يوقع ضحايا، ما يحتم على الدفاع المدني سرعة التعامل مع البرج عبر إسقاطه كاملاً، أو إخلاء المنطقة ومنع الحركة فيها باعتبارها منطقة خطرة".
في منطقة قريبة من دوّار أبو علبة قُربَ وسط شارع الجلاء بمدينة غزة، يلفت الأنظار ميلان كبير لعمارة سكنية تعود لعائلة ظاظا، وقد كانت مكونة من ستة طوابق، وتعرضت الطوابق السفلية للنسف، فانهارت، وبقي طابقان مائلان يرتكزان على بيت الجيران، ومع ذلك يسكنها بعض أفراد العائلة الذين قاموا بإغلاق فتحات الجدران بالشوادر والأخشاب.

70% من مباني محافظتَي الشمال ورفح تعرضت للقصف والنسف

يقول محمد زهير ظاظا لـ "العربي الجديد": "عندما اقتحم جنود الاحتلال المنطقة، نسفوا العمارة، فانهارت الطوابق السفلية وبقي طابقان مائلان، بعد عودتنا من النزوح لم نجد سبيلاً غير السكن فيهما، رغم شعورنا بالدوران أحياناً، وانزلاقنا إلى الخلف. قبل أسبوع، حدثت رجة كبيرة في البيت، فبدأنا بنصب الخيام التي نعيش فيها نهاراً ثم ندخل المنزل في ساعات الليل. أرضية شقتي فيها فتحة كبيرة، وقبل أيام سقط حجر على ظهر ابن أخي، وعادة ما نسمع طقطقة من أثر التشققات، ونخشى فعلياً من انهيار البناء كاملاً".

واستجابة لمناشدات الأهالي، حضرت طواقم الدفاع المدني إلى "عمارة الحبيب محمد"، بالقرب من منزل عائلة ظاظا، والتي تتكون من سبعة طوابق تعرض الطابقان العلويان منها للقصف، وتتدلى عدة أعمدة إلى الأسفل، أحدهم يتدلى على مدخل العمارة.
يسكن محمد الخزندار العمارة، ويقول لـ "العربي الجديد": "ناشدنا الدفاع المدني الحضور، ووصل طاقم من خمسة أفراد، وصعدوا إلى السطح، وباستخدام أدوات كهربائية تعمل بالبطاريات، قاموا بقص الحزام وإسقاطه بعد تحذير السكان والجيران، وبالتالي زال بعض الخطر، مع بقاء أحزمة أخرى خطرة تحتاج إلى معدات ثقيلة. نشعر بالخوف الدائم، ولا أقوم بإخراج أطفالي خشية سقوط شيء عليهم فهناك حجارة تسقط باستمرار من الأعلى".

وعلى مستوى قطاع غزة كله، تعرضت آلاف المنازل للنسف والحرق، ما يجعل البيوت التي لم تسقط كاملةً خطرة على حياة السكان، ورغم ذلك يحاولون إصلاح أجزاء منها للسكن. لا تخلو شوارع مدينة غزة ولا أحياء المدينة ذات كثافة البنيان الشديدة، من مشاهد تدلّي الأسقف والأعمدة، ويتكرر سقوط الحجارة، خاصة في حي الشيخ رضوان الواقع غربي المدينة، والمليء بعمارات سكنية متلاصقة، ما يزيد المخاطر.
يجلس الشاب رفيق سمور عند مدخل منزله المكون من خمسة طوابق، تعرضت ثلاثة منها للقصف، وتتدلى أسقفها وأعمدتها نحو الأسفل، وأمامه على الأرض حجارة متراكمة. يقول لـ "العربي الجديد": "سقطت هذه الحجارة في الصباح، ومن الممكن أن تسقط أحجار أخرى في أي وقت. نعيش خوفاً دائماً لأن الأسقف بعد قصفها وتفتت أعمدتها أصبحت ثقيلة على الطابقَين المتبقيَين اللذين نعيش فيهما".
وكما يغيب البديل عن عائلة سمور، يدفع الأمر نفسه عائلة غبن إلى السكن في منزل تتدلى أعمدة من سقفه المقصوف، كما أن أحد أسقف الجيران مائلة على جدران الطابق المتبقي من الجهة الغربية، وقبل أيام سقط أحد الأعمدة. يقول أحد أفراد العائلة لـ "العربي الجديد": "يمكن أن يقع أي شيء في أي لحظة، لكننا اكتفينا من معاناة 15 شهراً من النزوح والعيش في الخيام، ولا نستطيع إسقاط الأسقف لعدم وجود المعدات والآليات".
ووفق إحصائيات نشرها المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، تعرضت 161 ألفاً و600 وحدة سكنية في قطاع غزة للهدم الكلي بفعل القصف الإسرائيلي، إلى جانب 82 ألفاً أخرى أصحبت غير صالحة للسكن، و194 ألفاً تضررت جزئياً، ما يعني تضرر 437 ألف وحدة.

على مقربة من بركة الشيخ رضوان، يجلس الحاج أبو أحمد قويدر أمام منزله، وعلى بعد عشرات الأمتار منه تظهر خمسة طوابق لمنزل عائلة أبو العمرين متراكمة فوق بعضها. تعرض المنزل للنسف في ديسمبر/ كانون الأول 2023، خلال اقتحام جيش الاحتلال لحي الشيخ رضوان، لكنه ظل واقفاً ولم يتعرض للانهيار، ما شجع سكانه وبعض النازحين للسكن فيه في ظل غياب البدائل، لكنّ البناء انهار فجأة في شهر أغسطس/آب 2024.
يروي قويدر لـ "العربي الجديد": "حذرنا العائلات كثيراً من أن البيت غير صالح للسكن، لأن الأعمدة كانت منفصلة عن الأسقف، وهناك ميلان واضح، فكانوا يغادرون أسبوعاً ثم يعودون إليه مجدداً. تغير الأمر كلياً بعد إلقاء برميل متفجر على منزل عائلة أبو وطفة القريب، انفجرت معه خطوط المياه في بيت أبو العمرين، وصاحب ذلك المنخفض الجوي ورياح شديدة، وكلها عوامل أدت إلى انهيار البيت، وقد أخرجنا منه 18 شهيداً، أغلبهم أطفال ونساء، من عائلات أبو العمرين والنفار والشوا وأبو العون".
عاد عادل أبو وطفة إلى منزله الذي تعرض لقصفٍ أدى لانهيار ثلاثة طوابق، وبقاء طابق واحد يميل بمقدار 20 سنتيمتراً نحو الشارع، وقبل أيام قام بإزالة عامود إسمنتي متدلٍ على المدخل. يقول لـ "العربي الجديد": "ربطت منشاراً حديدياً بخشبة، وقمت بقص السيخ الحديدي الذي يحمل العامود، فسقط على الأرض. كنت أخشى من سقوطه فجأة، وأشعر بالخوف من انهيار المنزل حال تعرضت المنطقة للقصف حال تجدد الحرب، لكن ليس لدينا بديل في ظل عدم وجود خيام إيواء".

الحال نفسه ينطبق على عمارة سكنية مكونة من سبعة طوابق في المنطقة نفسها، تعرضت للنسف والحرق، ما أدى لانحدار كبير لأحد الأسقف تجاه الطريق، ومع ذلك يسكنها الناس. يقول أبو عاصم، وهو أحد السكان، لـ "العربي الجديد": "نعلم أن هناك خطراً، وأن النسف والحرق أثرا على قوة البناء، لكن الظروف التي نعيشها أجبرتنا على إصلاح جزء من البيت والسكن فيه. تواصلنا مع الجهات المختصة، لكن الإمكانيات الضعيفة تحول دون تدخلها".
حدث انهيار آخر لمنزل يقع بالقرب من دوار أبو علبة، يعود لعائلة كالي، وكان مكوناً من ثلاثة طوابق، وتعرض للنسف في ديسمبر 2023، واستشهد بداخله نحو 12 فرداً، وبقي طابقان لم يسقُطا إلّا في مارس/ آذار 2024.
يقول زهير أحمد ظاظا لـ "العربي الجديد": "كنا نسكن في بيت جيراننا النازحين، الذي يقع خلف منزل عائلة كالي، وكنا نشعر بالخطر الدائم، فالمنزل تعرض للنسف، وبقي واقفاً مع وجود ميلان وتصدع في الأعمدة، وقد سقط فجأة خلال ساعات الليل تزامناً مع هبوب رياح قوية، كان صوت الارتطام مخيفاً، والحمد لله لم يتأذ أحد".
بدوره، يؤكد المتحدث باسم جهاز الدفاع المدني، الرائد محمود بصل، أنه تصلهم يومياً مناشدات للتعامل مع أعمدة متدلية وجدران آيلة للسقوط، وهناك مخاطر واضحة على الأهالي والمارة، لكن لا يمكن تلبية كل المناشدات نظراً لعدم توفر الإمكانيات. يضيف لـ "العربي الجديد": "المخاطر منتشرة في كل مناطق قطاع غزة، وإلى جانب المنازل الآيلة للسقوط، هناك مخلفات الاحتلال الحربية غير المنفجرة، وكل ذلك يحتاج إلى معدات ثقيلة لم يبق الاحتلال أياً منها في غزة، وهي مدرجة ضمن البروتوكول الإنساني، لكن حتى اللحظة لم يصل للدفاع المدني منها شيء. الكثير من المهام تحتاج إلى معدات ثقيلة، وغيابها يُبقى الخطر قائماً، كما أن الخيام التي دخلت إلى القطاع لا تلبي 40% من الاحتياج".

من جهته، يؤكد رئيس لجنة التخطيط والمشاريع بوزارة الأشغال والإسكان في غزة، المهندس ناجي سرحان، أن الوزارة قامت بتوجيه فرق حصر ميداني لتحديد الأماكن الخطرة، سواء كانت قطعاً متدلية أو مبانٍ آيلة للسقوط، وهناك محاولات لحل المشكلة، لكن غياب المعدات يشكل عائقاً كبيراً. يضيف لـ "العربي الجديد": "لدينا نحو 100 ألف وحدة سكنية متضررة جداً، وهي غير صالحة للسكن، وتمثل خطورة على حياة الأهالي، والتعامل معها ليس سهلاً، ويحتاج إلى آليات ومواد بناء، فإصلاح الأعمدة المكسورة والمفرغة يحتاج إلى إعادة صبّ باطون، ودعم حديدي للأسقف، وكل هذا غير موجود".
يتابع سرحان: "70% من قطاع غزة بات مدمراً، وركز الاحتلال في عمليات القصف على استهداف الطوابق العلوية من المباني، ما أدى إلى هبوط الأسقف وميلان الأبنية، وتشققات كبيرة تحتم إزالة تلك المباني، خصوصاً في محافظتي رفح والشمال، وهما الأكثر تدميراً، ثم مدينتي غزة وخانيونس".
وتصل إلى المستشفى الأهلي المعمداني إصابات يومية نتيجة سقوط حجارة من منازل مقصوفة، وتزايد ذلك مع الرياح والأجواء الباردة التي يتأثر بها قطاع غزة منذ ثلاثة أسابيع. يقول الطبيب في المستشفى، محمد الشيخ، لـ "العربي الجديد": "منذ عودة النازحين، يجتهد الأهالي في إزالة ما يمكن من الركام، وحدثت إصابات كثيرة، خاصة بين الأطفال. تصلنا نحو عشرين إصابة يومياً، ونعاني من نقص المستلزمات الطبية. المستشفى المعمداني لا يوجد فيه قسم استقبال للإصابات، ومع وجود نقص كبير للمراكز الصحية، لا يتلقى غالبية المصابين العلاج الكافي".

قراءة المقال بالكامل