مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، شكل الإعلام إحدى أبرز ساحات الصراع بين النظام السوري ومعارضيه، إذ كان الإعلام الرسمي أداة دعائية بيد النظام، يخضع لرقابة مشددة تسوّق روايات السلطة وتخفي معاناة الشعب، بل لعب دوراً بارزاً في تبرير مجازر الأسد وجيشه، وفرز مراسلين عسكريين رافقوا جيش النظام أثناء ارتكاب جرائمهم، لتصوير تلك المجازر وتوثيقها. وبعد انطلاق الثورة، برز إعلام مستقل في شمال غرب البلاد، فضح انتهاكات النظام، وكشف واقع القصف والمعاناة الإنسانية. إلا أن هذا المشهد تغيّر بعد سقوط النظام، مع ظهور تنافس جديد بين صحافيي الثورة والصحافيين الذين عملوا سابقاً ضمن إعلام النظام.
مع إسقاط نظام البعث، حاول بعض الإعلاميين الذين كانوا يعملون ضمن وسائل إعلامه الرسمية إعادة صياغة أنفسهم والاندماج في المنظومة الإعلامية الجديدة. ورغم محاولاتهم لتغيير خطابهم وتقديم أنفسهم حياديين أو تائبين، فإن هذه المحاولات أثارت جدلاً واسعاً. فقد أدت إلى احتكاكات مع إعلاميي الثورة الذين انطلقوا من قلب المعاناة وواجهوا تحديات ميدانية كبيرة لتوثيق الجرائم والمجازر.
نايف البيوش، أحد الإعلاميين المعارضين، ينتقد هذه الظاهرة قائلاً: "الكثير من الصحافيين الموالين للنظام أعلنوا انضمامهم إلى الثورة متناسين دورهم في تشويه الحقائق سابقاً. نحن الذين وثقنا القصف والمجازر نجد أنفسنا اليوم مضطرين للتنافس مع أشخاص كانوا جزءاً من آلة التزييف". ويرى البيوش أن معايير بعض المنظمات الإعلامية الدولية التي تتعامل مع الصحافيين من دون النظر إلى خلفياتهم المهنية والسياسية أتاحت الفرصة لهؤلاء للتحرك بحرية.
الناشط الصحافي أحمد بربور يرى أن التنافس بين صحافيي النظام السابق وصحافيي الثورة يعكس صراعاً أكبر حول من يملك سردية المستقبل الإعلامي لسورية. ويشير إلى أن الصحافيين العاملين مع النظام سابقاً يتمتعون بخبرات مهنية وبنية تحتية قوية، بينما يفتقر صحافيو الثورة إلى الدعم المؤسسي رغم شجاعتهم ومهاراتهم الميدانية. ويطالب بربور بتأسيس منظومة إعلامية جديدة تركز على الشفافية والمهنية لضمان العدالة والتوازن.
من جهتها، تنتقد الإعلامية سلوى عبد الرحمن محاولات بعض الإعلاميين السابقين تبرير أفعالهم بالقول إنهم كانوا مجبرين على تنفيذ سياسات النظام متسائلة: "كيف يمكن الوثوق بهؤلاء الذين حولوا المجازر إلى إنجازات؟". وتدعو عبد الرحمن إلى محاسبة هؤلاء الإعلاميين الذين شوّهوا الحقائق، بدل إعادة توظيفهم في الإعلام الجديد.
كما انتقدت عبد الرحمن غياب الدعم لإعلاميي الثورة، مشيرة إلى أن الصحافيات المحجبات يتعرضن للإقصاء من قبل وسائل إعلام إقليمية ودولية مقابل تعاونها مع صحافيات غير محجبات، بعضهن مرتبط بخطاب النظام السابق. وتشدد على ضرورة منح الفرص لإعلاميي الثورة في الشمال السوري الذين يتمتعون بخبرات كبيرة ويواجهون تحديات مهنية قاسية.
ببساطة، يعكس المشهد الإعلامي في سورية ما بعد الثورة تناقضات بين إرث النظام السابق وأهداف الثورة في الحرية والعدالة. وبينما يطالب إعلاميو الثورة بتفعيل المحاسبة وإفساح المجال أمام الإعلام الحر، يبقى التحدي الأكبر في بناء إعلام يعكس تطلعات الشعب السوري بعيداً عن إرث الماضي.
