يغيب الكوري الجنوبي بونغ جون هو (1969) مدّة، ليعود بعدها مُحمّلاً بمنجز سينمائي جديد، لا يشبه الذي قبله، ولا يقلّ عنه جمالاً. ينطبق هذا على جديده "ميكي 17" (2025)، الآتي بعد تحفته السينمائية "طفيلي" (2019). يذهب في منجزه هذا، المعروض في الدورة الـ75 (13 ـ 23 فبراير/شباط 2025) لـ"مهرجان برلين السينمائي (برليناله)"، إلى تخوم الخيال العلمي، المختلف في تفاصيله عن الكثير منه، بعمق أسئلته الوجودية، ومخاوفه المتأتية من التطوّر الحاصل اليوم في مجالات علمية جديدة، تُثير شهية أصحاب المصالح الرأسمالية للاستحواذ عليها، وتسييرها وفق إرادتهم السياسية.
ببراعته المعهودة، يكتب بونغ جون هو نصّاً سينمائياً (السيناريو له)، يُبطّن فيه، لصالح الإبداعي، موقفه السياسي والأخلاقي، بمتخيّل بصري، مُذهلة اشتغالاته الجمالية. فيه، يتصوّر زعيماً سياسياً ثرياً وتافهاً، يقود مشروعاً فضائياً خطراً، يريد به تحقيق طموحه بامتلاك كوكب جديد، بعد أنّ مَلّ وجوده على كوكب الأرض، المُخرَّب والموشِك على الفناء.
للسيطرة المطلقة على كوكب "نلفْهايم"، لا بُدّ من وجود جيوش تحميه، وعبيد يخدمونه، ومُقرّبين إليه من دون شروط. يريد من هؤلاء أنْ يكونوا حماة سلطته وعبيده الخالدين. عبيد من نوع جديد، كلّما ماتوا، أعاد العلماء استنساخهم مُجدّداً مرّات ومرّات، كما يريد أصحابه الحفاظ على أشخاص آخرين أهمّ منهم ومن بقية البشر.
إلى المشروع، يأتي ميكي بارنز (دور مزدوج يؤدّيه باقتدار روبرت باتينسون) مُحبطاً إثر وفاة والدته، وأزمة مالية يمرّ بها. من دون الاهتمام بقراءته، يوقّع على عقد العمل الجديد، وعند مباشرته العمل، يكتشف أنّ وظيفته الحقيقية أنْ يموت ويُعاد ثانيةً إلى الحياة بشكل كائن "مطبوع"، قابل للاستبدال بنسخته الأصلية. ولأنّه كبقية الكائنات المختبرية الجديدة، قابل للخلق والإعادة، يُطبع منه خلال وجوده على الكوكب 17 نسخة. هكذا يضمن الاستنساخ البشري لصاحب المشروع، رجل الأعمال كينيث مارشال (مارك روفالو)، قوة عمل دائمة، تُرسّخ وجوده زعيماً لكوكب يقوده رفقة زوجته يِلفا (توني كوليت) ومجموعة مختارة، في خدمتهم يعمل البشر الصاعدون معه على متن كوكبهم السيّار بإخلاص وحذر. مع ذلك، يرتكب المشتغلون على آلة الاستنساخ خطأ في إصدار الطبعة الجديدة من ميكي.
لمعالجته بسرعةٍ، يأتي إلى المختبر ميكي آخر يشبه رقم 17، ويحمل مواصفاته الجسدية وذاكرته الأصلية. بوجود ميكي 18، ترتبك المعادلة العلمية، وتختلّ دقّتها. هذا يقود إلى مُتغيّر دراماتيكي في مسار سرد مُحكَم، كلّ انعطافة فيه تُجسَّد باشتغال سينمائي متماسك، الدقّة والإبهار البصري سمتهما الأساس. ذلك يُقرّبه أسلوبياً وصنعة من الهوليوودية، لكنّ متنه يجرّه إلى موقع مختلف، يقارب وضعاً بشرياً مُهدّداً بمخاطر تأتيه من شيوع شعبوية سياسية وهيمنة رأسمالية، لا يخفي النصّ المُتخيّل التلميح بها، واقترانها بأشخاصٍ موجودين في الواقع. أو على الأقلّ، يُحيل المُشاهد إلى التفكير بشدّة قربها من الرئيس دونالد ترامب، أو الملياردير إيلون ماسك، صاحب مشاريع إقامة كواكب فضائية، يُمكن للأثرياء الانتقال إليها، أو العيش فيها بعيداً عن كوكبٍ ساهمت شراهة الرأسماليين الصناعيين بتلويثه وتدمير بيئته.
التشابه بينها يأتي من الفيلم نفسه. هيئة مارشال، السياسي الديني المُضحك وتصرّفاته الهوجاء، تضفي على النصّ روحاً فكاهية مُحاطة بسوداوية متأتية من تصادم مُنتظر بين بشر أسوياء وأقلية تتحكّم فيهم، وتهدّد بتدمير كائنات أخرى، من دون إحساس بالإثم أو الخطيئة.
لترسيخ هيمنته على الكوكب الجديد، يشرع زعيم المشروع بإزالة كلّ الموجود عليه، عدا سكّان كوكبه. تظهر في السياق كائنات فضائية تُشبه الخنازير البرية، تعيش فيه، ولا تعرف شيئاً عن الشرّ المُقترب منها. يحدث التصادم المنتظر بينها وبين جيوش الكوكب المستحدث، ومعه تجري اصطفافات وانشقاقات بين سكان الكوكب.
ميكي 17 يشعر بالحبّ لأوّل مرة، بعد تعرّفه على الحارسة ناشا (نعومي آكي)، ويُدرك حينها معنى أنْ يعيش الإنسان كما هو، من دون حاجة إلى تذوّق طعم الموت أكثر من مرة. يعرف، بتجربته بصفته كائناً مستَنسخاً، براءة تلك الحيوانات، وشدّة تماسكها الأسري. يُهدّد خطف ابن زعيمة القطيع بحرب بين الجانبين. يحرّض دعاة الحروب قائدهم، وتلعب زوجة زعيمهم دور المحرّض عليها. يقابل رغبتهم الوحشية تيار بشري، تشدّه أواصر جينية متأصلة لكوكب الأرض.
تدمير مشروع مارشال حتمي، لكنّ الأسئلة التي تتركها المَشاهِد الأخيرة تمنح نص "ميكي 17" عمقاً وفرادة. الإطار التمهيدي لعرضها مُخادع بأوّله، لكنّ متابعة مسار حكايته، والتمتّع بحلاوة معالجتها السينمائية، يُذكّران بأن بونغ جون هو لا يقترح عملاً سينمائياً مُسطّحاً، لأنّ ميزته الأهم بصفة مخرج آسيوي تكمن في عمق رؤيته للعالم والرأسمالية الغربية خاصة. ربما لا يرتقي مُنجزه الأخير إلى مستوى "طفيلي"، لكنّه فكرياً يتجاوزه، مع أنّ "طفيلي" يقارب مفهوم الصراع الطبقي ويُجسّده باشتغال سينمائي بارع، استحقّ عليه جوائز عدّة، كالسعفة الذهبية للدورة 72 (14 ـ 25 مايو/أيار 2019) لمهرجان "كانّ". في النهاية، هناك مشتركات كثيرة بين الفيلمين، تأتي تباعاً إلى ذهن المُشاهد بعد تركه صالة العرض.
