لا نُبالغ لو قُلنا إنّ رحيل الروائية والأكاديمية الفلسطينية اللبنانية نازك سابا يارد، أمس الخميس، عن 97 عاماً، يكشفُ أحوالَنا المعرفية والحضارية، فقليلون، بل نادرون، أولئك الذين يكون موتُهم كاشفاً لأحوال أُمَّة بأسرها، ومؤشِّراً على ضرورة النظر في ما تبقّى لنا من مقوّمات نهوض، بكلّ ما للكلمة من معنى حضاريّ.
شكّلت نازك سابا يارد (القدس، 1928) نموذجاً أنتلجنسياً فريداً في الثقافة العربية؛ امرأةٌ موسوعيّةٌ إلى أبعد حدّ، ومُرتحلةٌ بين التراث والنهضة العربيّين واللّغات الأجنبية والآداب المعاصرة، كما لو أنّ حدوداً ومفاهيم لا تُؤطِّر كلَّ حقل ممَّا سبق، وعربيةٌ عاشت أزمنةَ الخسارة من نكبة فلسطين إلى الحرب الأهلية اللبنانية، وتأثّرت بها شخصياً لدرجة كان يُمكن أن تتدمّر حياتُها - إن لم يكن فيزيائياً فنفسيّاً وإبداعيّاً - لكنّها تخطّت كلّ ما سبق بوعي مُثابِر، مُستكملةً رحلتَها التربوية والمعرفية المديدة.
عشرون عاماً تفصل بين ميلاد صاحبة رواية "نقطة الدائرة" (1983) ونكبة فلسطين عام 1948، عقدان تأسيسيّان على المستوى المعرفي، لابنة رجُلٍ مقدسي يُدعَى إسكندر سابا وامرأة لبنانية اسمُها حلا المعلوف، لكنّهما أيضاً سيَسِمان بأحداثهما المأساوية حياةَ الراحلة الشخصية، حتى شهادتها، في عامها الأخير، على إبادة شعبها الجماعية على يد نسل المستوطنين ذاتهم.
استقرّت في لبنان بعد النكبة حيث درّست في جامعاته وألّفت أعمالها
أبرز الملامح التي رسمت وعي نازك سابا يارد، خلال تلك السنوات، كان تعلُّمها اللغة الألمانية، والتي ستُشكّل إلى جانب الإنكليزية والفرنسية نوافذ لها على عوالم وأصوات أدبية مختلفة، ومن ثمّ جاء انتقالُها إلى القاهرة، حيث حازت، عام 1945، شهادةً في الفلسفة من "جامعة القاهرة" (الملك فؤاد حينها)، وتعرّفت هناك على زوجها اللبناني إبراهيم يارد، قبل أن تضع النكبة حدّاً أخيراً بينها وبين بلادها التي لن تراها ثانية، ولتنتقل إلى لبنان منذ عام 1949.
"الرحّالون العرب وحضارة الغرب: في النهضة العربية الحديثة"، عنوانُ مَعْلمة نازك سابا يارد البَحثيّة الأبرز، والتي كانت في الأصل عنوان أُطروحة دكتوراه تقدّمت بها إلى "الجامعة الأميركية" في بيروت عام 1976، قبل أن تصدر في طبعة مزيدة مُنقَّحة عن "نوفل" عام 1979. في هذا الكتاب، وقفت يارد على ظاهرة الرِّحلة العربية إلى الغرب، ونظرت إليها بوصفها أهمّ الوسائل التي عرّفت العرب بمظاهر الحضارة الأوروبية في القرن التاسع عشر، وقد وصف بعض الرحّالين مشاهداتهم في الغرب، ودوّنوا انطباعاتهم، فقرأها بعض مواطنيهم الذين لم يتمكّنوا من زيارة أوروبا بأنفسهم.
ويُفصِّلُ الكتاب المرجعي، في 512 صفحة، كيف لعبَ أدبُ الرِّحلة دوراً في تعريف العرب بالحضارة الأوروبية، وقدرته على نشر ما نجم عن الاحتكاك بالغرب من أفكار ومبادئ، ونُظم جديدة عملت على التأثير في المجتمع العربي تدريجياً. ويعود اختيار الباحثة للدراسة موضوع أدب الرحلة في القرنين التاسع عشر والعشرين، كونها من أهمّ الفنون التي صوّرت التواصل العربي بالغرب، وما نجم عنه من مؤثّرات صدمت الذهنية العربية، وأدّت إلى صراع سياسي واقتصادي وفكري وحضاري لا يزال من الأسباب التي تقلق الهويّة العربية حتى اليوم.
كذلك انشغلت الراحلة بنقد الشعر، وقدّمت فيه عناوين بارزة، مُخصِّصةً اثنين منها لابن الرومي، هُما: "ابن الرومي شاعر الحسّ والعاطفة والخيال" (1980)، و"كلّ ما قاله ابن الرومي في الهجاء" (1983)، بالإضافة إلى كتابَين آخرين من الفترة العباسية: و"حمّاد عجرد" (1983)، و"في فلك أبي نواس" (1992) الذي أضاءت فيه سيرة ثلاثة شعراء لم يحظوا باهتمام النُّقَّاد: والبة بن الحُباب، وعمرو بن كلثوم العتابي، وأبان بن عبد الحميد اللاحقي، في حين كان نصيبُها من النهضة: "أحمد شوقي.. لحن المجتمع والوطن" (1982)، و"رسائل جبران خليل جبران إلى ميخائيل نعيمة ومي زيادة" (2017).
وفي عام 2000 قدّمت يارد عملها المشترك مع نهى بيومي الذي حمل عنوان "الكاتبات اللبنانيات: بيبليوغرافيا 1850 - 1950"، وفيه تعريف بالكاتبات اللبنانيات في فترة لم يتم التوثيق الكامل لها، إذ تناولت الباحثتان كلّ أصناف كتابات المرأة اللبنانية، بما فيها المقالات والقصص التي نُشرت في الصُّحف، إضافة إلى الروايات، والشعر، والمسرح، والتعريب، وقصص الأطفال، والكتب المدرسية، والدراسات والأطروحات الجامعية، باللغات العربية والفرنسية والإنكليزية.
أمّا إصدارات نازك سابا يارد في الكتابة الإبداعية فقاربت عشر روايات، من بينها: "نقطة الدائرة" (1983)، و"الصدى المخنوق" (1987)، و"تقاسيم على وتر ضائع" (1992)، و"الذكريات الملغاة" (1998)، و"الأقنعة" (2004)، و"أوهام" (2012)، و"اللعنة" (2014)، و"فقدان" (2018)، كما أصدرت عدداً من روايات الفتيان، كان آخرها: "أيام بيروت" (2002)، و"سامر" (2009).
ورغم هذا الإنتاج النوعي والغزير، ظلّت الباحثة والناقدة والأكاديمية الفلسطينية اللبنانية تتوق إلى مرحلة تصل فيها عتبة الرضى التامّ عن إنتاجها، كما صرّحت لـ"العربي الجديد" في لقاء سابق؛ حيث قالت: "لستُ راضية تماماً عن إنتاجي، لأنّي أرى أن هناك دائماً مجالاً للتحسّن والتحسين لو كان لي مزيد من الوقت".
